في حياة تيريزا ماي فرحة دائمة لا تكتمل.

في 1956 وُلدت. لكنّ 1956 كانت شديدة الشؤم على حزبها اللاحق، حزب المحافظين. عامذاك، مُني قائده أنتوني إيدن بهزيمة السويس. في 1997، احتلّت مقعدها النيابي الأوّل عن مايدن هيد في منطقة بيركشاير. عامذاك، طويت صفحة المحافظين بعد سنوات عزٍّ وحلَّ في 10 داوننغ ستريت العمّالي توني بلير. في 2016 صارت قائدة حزبها. عامذاك، صار دونالد ترمب، وسط صعود شعبوي وكونيّ، قائداً للمعسكر الغربيّ. في 2017 أجرت أوّل انتخابات كرئيسة حكومة، لكنّ الانتخابات تلك خفضت حصّة المحافظين من 330 مقعداً برلمانيّاً إلى 317، وإن أبقتْهم الحزب الأوّل.
بين هذه التواريخ تضافرت عوامل عدّة صنعت من تيريزا ماي وجهاً توفيقيّاً.

منطقتها غنيّة، لكنّها احتفاليّة وسياحيّة، تفيض بالتاريخ وبالفولكلور. هناك يقيم قصر وندسور وقلعتها، وهناك أحرز وليم أوف أورِنج انتصاره في القرن السابع عشر فصار الملك وليم الثالث. هذه إجماعات مدرسيّة لا تُغضب أحداً.
والدها قسّ على المذهب الأنغليكاني الكاثوليكيّ، أي من أولئك البروتستانت المتمسّكين بالميراث الكاثوليكي الجامع. وهي تخرّجت من أكسفورد في 1977. بماذا؟ بأحد أكثر العلوم حياديّة: الجغرافيا. بعد ذاك عملت مستشارة ماليّة تتعاطى بالأرقام. لاحقاً تزوّجت فيليب ماي الذي يعمل في إدارة الاستثمارات.

دائرتها الانتخابيّة الغنيّة مايدن هيد، التي انتخبتْها نائبة محبوبة، لا تحبّ المواقف الحادّة. إنّها لا تعدّ أكثر من 75 ألفاً، وهي جزء من منطقة بلداتٍ شبه ريفيّة، أكبر مدنها ردينغ التي تقلّ عن ربع مليون. لكنّ ردينغ هي أيضاً عاصمة تقنيات الاتصال وتجارتها. الحكمة إذن أبرشيّة: ليس الازدهار مشروطاً بالمدن الكبرى وبالتعقيدات التي تستجرّها الكوزموبوليتيّة.

وماي من معتنقي «مُحافَظَة الأمّة الواحدة»، والتعبير لبنجامين دزرائيلي، قائد المحافظين ورئيس الحكومة أواخر القرن التاسع عشر. عبره حاول دزرائيلي مصالحة الطبقات واجتذاب الطبقة العاملة إلى حزبه، مطالباً الأغنياء بـ«واجب أخلاقيّ» حيال الفقراء.

فماي بالتالي متحفّظة في رأسماليّتها ومقتصدة في ليبراليّتها. لا تستسيغ «اليسار الليبراليّ» الذي كسب الحرب الثقافيّة أواخر القرن الماضي، رافعاً راية التعدّد، لكنّها أيضاً لا تستسيغ «اليمين الليبراليّ» الذي كسب الحرب الاقتصاديّة. ليبراليّو الطرفين جمعهم الدفاع عن أوروبا، أمّا هي فاعتصمتْ بالقيم المحافظة القديمة: الإيمان، العَلَم، العائلة...

في 2002 تسلّمت رئاسة الحزب، وهو منصب إداري وتنظيميّ. وبين 2010 و2016 شغلت وزارة الداخليّة، وهي المدّة الأطول في تلك الوزارة منذ ستين عاماً. لقد عُرفت كوزيرة بمواقف إجرائيّة أهمّها تشديد القيود على الهجرة. لكنْ على مدى تلك السنوات، لم تُنسب إليها عبارة خاصّة صالحة لأن يُستَشهَد بها.

وباستثناء الوَلَع بأحذية «مميّزة»، حافظت في ملبسها وقَصّة شعرها وابتسامتها على تحفّظ خمسيني ينفر من تحرّرية الستينيات.

والحال أنّ ماي السيّدة الثانية التي تتولّى رئاسة الحكومة في تاريخ بريطانيا. لكنّ مقارنتها بالأولى، مارغريت ثاتشر، ليست لصالحها. الأخيرة كانت من طينة صِداميّة ونضاليّة، بل «حديديّة»، وفقاً للقب شائع، والأهمّ أنّها صعدت في زمن صعدت فيه النيوليبراليّة والاقتصاد النقديّ. هكذا واكبَها رونالد ريغان على نحو يغاير المواكَبة المسمومة التي جمعت ماي من دونالد ترمب.

مع استفتاء «بريكست»، تقلّصت الأفراح وتمدّدت المخاطر. الانقسام الذي شقّ البريطانيين صار رأبُه يستدعي الأبطال، وهي لم تُقَدّ من معدن بطوليّ. صحيح أنّها حذّرت من «بريكست» ومضاره، لكنّها كانت كمَن يتحدّث في بطنه. المواجهة كانت تتطلب لبوة فتصرّفتْ كدجاجة: ما إن حلّت محلّ ديفيد كاميرون حتّى قالت بحزم إنّ «بريكست يعني بريكست»، وقدّمت لـ«البريكسيتيين» تنازلات كما وزّرت بعض أبرزهم.

انشدادها العاطفي إلى «إنكلترا الصغرى»، السابقة على العولمة و«الأوروبة»، جعلها تتكيّف مع نتائج الاستفتاء. لكنّها، مع هذا، ولأنّها ليست «بريكسيتية»، فاوضت الأوروبيين بصعوبة لتطبيق سياسة لم تخترْها. البرلمان رفض خطّتها لمغادرة الاتّحاد ثلاث مرّات متوالية. رجال الأعمال الوازنون في حزبها قلقون ومستاؤون. العواصف، لأسباب شتّى، جعلت تعصف بها: من المعارضة ومن الاتّحاد الأوروبي ومن حزبها الذي باتت تسير فيه سيرَ الجندي في أرض معادية. والأهمّ أنّ وحدة الحزب نفسها باتت مهدّدَة في عهدها، هي التي لم تُعرَف إلاّ بترويج التوافق.

لكنّ الذين أعملوا مبضع التحليل في شخصها قالوا إنها متطرّفة في اعتدالها، وهي، في عنادها، مواربة تستخدم لغة غامضة لإخفاء مشاعر فعليّة. فوق هذا، تلوم ماي الجميع إلاّ نفسها، وهذه عمليّة دفاع بسيكولوجي يجعلها ترى في الآخرين ما تبرّئ نفسها منه.

وضعٌ كهذا جعل خُطاها تتعثّر بكلماتها. وقد سبق لها، في سيرتها السياسيّة، أن تبنّت مواقف متناقضة من جميع المسائل، الآيديولوجيّة والاجتماعيّة والجندريّة: إنّها مرّة هنا ومرّة هناك، على أمل أن تجد الأطراف المتناقضة، في سجلّ تناقضاتها الكثيرة، ما يوحّدها. لكنّنا الآن بِتنا أمام استحالة التوفيق: قد تحلّ انتخابات أخرى، أو استفتاء آخر، وقد تستقيل، على ما يطالب قائد المعارضة جيريمي كوربن. ذاك أنّ مستقبل الأمّة كلّه بات محاطاً بعلامات استفهام لا تبدّدها المصالحات البسيطة. أمّا الإمبراطورية التي قيل مرة أنّ الشمس لا تغيب عنها، فأضحت مهدّدة بأن تغيب، هي نفسها، عن الشمس.