عملياً، انتهت معركة «حزب الله» العسكرية الكبرى في سوريا. لم يعُد مضطراً إلى تقديم أثمان باهظة، بالمال والمقاتلين والعتاد، كما في السنوات السابقة. كما أنّ معاركه العسكرية الأساسية في لبنان قد طُوِيت أيضاً، على الأقل مرحلياً: مع إسرائيل، هدنةٌ ترعاها ضوابط دولية وإقليمية. ومع التنظيمات الإرهابية حُسِمت المعركة في جرود عرسال، صيف 2017. فما هي الخطوط التي يقاتل عليها «الحزب» في هذه المرحلة؟
 

ينطلق «حزب الله» من داخل استراتيجية المواجهة التي تخوضها إيران على مستوى الشرق الأوسط، للدفاع عن المكاسب التي حقَّقتها، خصوصاً بعد أحداث «الربيع العربي» والحرب في سوريا. وترمي هذه المواجهة إلى تكريس نفوذها في «الهلال الشيعي»، من طهران إلى بغداد فدمشق، وصولاً إلى بيروت، إضافة إلى قواعد نفوذ أخرى، أبرزها في اليمن وغزّة.

ومع مرور عام كامل على إنسحاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي، تبدو طهران اليوم في مواجهة أخطر استحقاقاتها. فهي تخشى أن تكون على وشك فقدانها المبادرة في مجالها التوسّعي الشرق أوسطي، ما يؤدي إلى ضياع أحلامها المدفوعة الثمن غالياً جداً، سواء باستنزاف طاقاتها المالية ووصول الاقتصاد الإيراني إلى مراحل صعبة، أو بالرجال والعتاد العسكري.

في سوريا، يحاول الروس تقديم كل التطمينات للحليف الإيراني إلى استمرار دوره هناك. ولكنهم، على أرض الواقع، يديرون نظام الرئيس بشّار الأسد بلا منازع، وبتغطية إقليمية ودولية مضبوطة الهوامش.

وفي العراق، يتمتع الإيرانيون بمقدار أوسع من النفوذ. لكن مستقبل الدولة العراقية لم يستقرّ حتى اليوم، وتنتظره تحوُّلات تشارك في صناعتها قوى دولية وإقليمية، ولا سيما منها الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، إلى جانب إيران.

وأما بيروت، فيصارع «حزب الله» للإمساك بقرارها لضرورات عدّة:

1- هي بوابة المتوسط إلى إيران ورأس الجسر في هلال النفوذ الإيراني.

2- هي التي تتكفَّل وضع إيران على جبهة المواجهة مع إسرائيل.

3- هي لإيران حجر الأساس لحماية نفوذها وحلفائها في سوريا وغزة.

4- في لبنان موارد اقتصادية هائلة يمكن لإيران أن تجنيها من خلال نفوذ حلفائها، على أبواب إعادة إعمار سوريا وانطلاق شبكة المصالح الاقتصادية الإقليمية، بعد التسويات الشرق أوسطية، وبدء الاستفادة من مخزونات النفط في لبنان. كما أنّ لبنان سوق مهمَّة ونقطة تقاطع يمكن أن تستفيد منها طهران للإطلالة على أوروبا.

لهذه الأسباب، لا تتخلّى إيران عن نفوذها في بيروت. وهي تبذل كل جهد ليحافظ «حزب الله» على تفوُّقه السياسي في قلب السلطة، مع احتفاظه بالتفوُّق العسكري المستمر منذ ربع قرن.

وثمة مَن يعتقد أنّها قد تضطر مرّة أخرى إلى «تلميع» هذا السلاح (وليس بالضرورة استخدامه)، إذا فكّر أحد في الاستقواء على «الحزب» ظنّاً منه أنّ هذا السلاح صار خارج الخدمة.


لكن الأساس حالياً، هو استمرار إمساك «حزب الله» بأكبر هامش من القرار السياسي في السلطة، ومواجهة الهجمة التي يتعرَّض لها- من جانب الولايات المتحدة خصوصاً- لإضعافه وتذويب مفاعيل سلاحه ودفعه إلى أن يكون مجرد حزب سياسي، كما أي حزب لبناني آخر.

يعتبر «الحزب» أنّ تراجعه إلى هذا الموقع لا يعني خسارته هو وحده، بل أيضاً خسارة إيران ككل- في سوريا خصوصاً- ما يعني سقوط حلقات أساسية من المشروع الإيراني.

وهكذا، يشعر «الحزب» أنّ المسؤولية الملقاة على عاتقه في لبنان أكبر منه بكثير. فهو جزء من قوة النفوذ الإيرانية. والدعم المفتوح الذي تقدِّمه له طهران يرُدُّه بدعمٍ مفتوح لها.

وعلى رغم من أن إيران تعيش لحظات اقتصادية قلّصت حجم الأرصدة التي تدفع بها إلى أرض المعارك في الشرق الأوسط، فإنّ «الحزب» يسخّر كل الطاقات المتاحة له في لبنان للحفاظ على موقعه المتفوِّق. ومن هنا أهمية حيازته السيطرة على عدد من المؤسسات والأجهزة.

ويقول البعض، إنّ «الحزب» رفع من مستوى استيعابه للدولة ومؤسساتها، ومن مستوى انضوائه في الدولة وهذه المؤسسات، في آن معاً، بهدف استثمار طاقاتها وتعويض التراجع في الدعم الإيراني. لكن آخرين يعتقدون أن «الحزب» مضطر إلى تنفيذ هذه الخطة، حتى وإن كان الدعم الإيراني في ذروته، لأنّه يشكّل التتويج الفعلي لكل انتصاراته العسكرية والسياسية.

فـ«الحزب» لا يريد بانتصاره إسقاط الدولة كما يعتقد البعض، لأنّ ذلك يجعله عارياً في المواجهة مع خصومه المحليين والإقليميين والدوليين، بل يريد أن تذوب الدولة فيه. وعندئذٍ، لا يعود مُهِمّاً أن يسلِّم قراره إليها. واليوم يقترب «الحزب» من تحقيق هذا الهدف.

لذلك، هو يعمل للحفاظ على الدولة بأي ثمن، ويتجنّب أي خضّة تؤدي إلى إسقاطها. ومن هنا مبادرته اللافتة إلى القتال ضد الفساد والاستجابة إلى المتطلبات الدولية في هذا الشأن. فانهيار الدولة، تحت وطأة عدم الاستجابة لشروط «سيدر»، يؤدي إلى انهياره هو داخل الدولة وإلى انكشافه وتقديم مبرّر لفشل الدولة أو أي دولة يسيطر عليها الإيرانيون. وهذا ما يسهِّل ضربه.

وزيارة الرئيس نبيه بري لبغداد ترتدي طابعاً شديد الأهمية في هذا الظرف، لما تحمله من دلالات في الحملة الأميركية على العواصم الحليفة لطهران.

إذاً، هكذا يعمل «حزب الله» لحماية نفسه من داخل الدولة، بعد دفعها تدريجاً الى الانزلاق في أحضانه. وأما النظام اللبناني فسيكون جاهزاً لمحاولة تغييره عندما تستتبّ له الظروف. وهو لا ينفِّذ خطوات ناقصة أو خاطئة، عادةً.

ويدور «كباشٌ» قاسٍ حول لبنان بين إيران و«الحزب» من جهة، وسائر القوى العربية والدولية من جهة مقابلة، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تدرك ما يرمي إليه «الحزب» وتعمل لتعطيله.

وإذا تصاعدت المواجهة الأميركية - الإيرانية إلى سقوفٍ عالية جداً في المرحلة المقبلة، وكان «حزب الله» جزءاً منها، فإنّ الدولة كلها في لبنان ستكون أمام اختبار صعب: هل ينفكُّ ترابطها أم تتضامن دفاعاً عن «الحزب» وإيران؟

في الحالتين، هناك أزمة خطرة. إذا تصادمت الدولة، بين «الحزب» وخصومه، ستسقط. وإذا توحَّدت في مواجهة القوى الدولية ستسقط أيضاً. و»الحزب» نفسه لا يريد سقوطها في أي حال، لأنّها توفّر له الحماية. فهل مِن أحدٍ يتبرَّع بإنجاز التسوية التي تحمي الجميع؟