سياسة النأي بالنفس إن كانت واقعية بعد تعطيل موجبات الولاء لطهران، قد تؤدي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الموقف العراقي، وهو خيار سهل إذا ما استند على الشعب.
 

من يعتقدون بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتصرف بجنون ومزاج شخصي وعنجهية هم فقط حكام طهران وموالوهم في لبنان وسوريا والعراق. فإستراتيجية الرئيس الأميركي تجاه طهران ليست للاستهلاك الدعائي، إنما هي ببساطة سلسلة تنفيذية من التحولات في السياسة الخارجية تجاه دول من بينها العراق وسوريا وإيران ومنطقة الشرق الأوسط، وجوهرها يقوم على شعار “أميركا أولا” وفاء للشعارات التي قدمها للشعب الأميركي. والتحول المهم هو إحلال سياسة ردع النظام الإيراني بدلا عن إطلاق حريته باللعب بأهم بلد في المنطقة وهو العراق المهم في الإستراتيجية الأميركية.

النظام الإيراني يعرف حقيقة هذه التحولات وجدّيتها، وهو خلال الخمسة عشر عاما الماضية لم يقف عائقا أمام استمرار الوجود الأميركي في العراق عسكريا وسياسيا، حتى في جزئية نقل بعض قطعاته من سوريا إلى العراق، فصفقة طهران – واشنطن بخصوص احتلال العراق عام 2003 لم تنته مفاعيلها بعد. ولهذا فإن نظام ولي الفقيه الإيراني، وعلى الرغم من نفوذه الهائل داخل المؤسسة السياسية الحاكمة في العراق، لم يطلب من الإدارة الأميركية مباشرة إخراج قواتها من العراق رغم انتهاء المعركة ضد تنظيم داعش، وترك الأمر لمواليه من الفصائل المسلحة وواجهاتها السياسية التعبير عن هذه الرغبة وهذا الهدف.

في المقابل ورغم حماسة الرئيس ترامب ضد نظام طهران إلا أنه لم يتبنَّ سياسة تدعو إلى تغييره وإنما إلى تغيير سلوكه، وهذا قد يمتد تنفيذه سنوات ليست قصيرة، وهي حالة بعيدة عما قرره الرئيس الأسبق جورج بوش الابن واللوبي الصهيوني من إزاحة النظام السياسي ودولة العراق بالاحتلال العسكري اللاحق لحصار خانق امتد طيلة 14 سنة رغم أن الأميركيين لم يعودوا يتسترون على أن احتلال العراق لم يكن ضروريا وكان ذا نتائج سلبية ليس على منطقة الشرق الأوسط وحدها، بل على العالم بأسره، من خلال تأجيج الإرهاب الدولي، وهو ما أعلنه جون نيكسون، وهو مسؤول كبير سابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية اشتغل في العراق، وكان المسؤول الأول لاستجواب الرئيس العراقي صدام حسين، وضمّن تجربته في كتاب بعنوان “استجواب الرئيس” اعترف فيه بأن “حرب 2003 لم تكن موفقة، وأن نشأة تنظيم داعش هي من نتائج تلك الحرب”، ويقصد احتلال العراق، أو من خلال تعبير الرئيس ترامب عن استيائه الشديد من سياسة الإدارة السابقة لبلاده تجاه العراق، والتي قال إنها “تركت العراق وحيدا وأن ذلك أنشأ فراغاً استغله الإيرانيون وتنظيم داعش”. وهذا الفرق الهائل في السياسة الأميركية ليس لأن النظام الإيراني لم يضطهد شعوب إيران أو يفتك بالأقليات القومية ويحرمها من حقوقها الإنسانية أو لم يعتد على جيرانه، بل إنه نفذ الاحتلال الناعم لأربع دول عربية بينها العراق.

هذه الإستراتيجية الأميركية تفهمها طهران التي تعلم أن واشنطن ليست لديها الرغبة في تغيير النظام السياسي، وأن مخاوف زعيم النظام خامنئي من وجود رغبة أميركية في تغيير نظامه السياسي هي للاستهلاك الداخلي، ونظام ولي الفقيه يستثمر ما يقدمه الموروث الشعبي الفارسي الديني من مميزات “التقيّة” لإدارة اللعبة بوجوه متعددة مع الخصم الأميركي سياسياً في الملعب العراقي الذي يدفع الفاتورة. النظام الإيراني يوحي بكبر حجمه كقطب يواجه القطب الأميركي، قبل ثلاثة عقود كان هناك قطب واحد مقابل القطب الأميركي اسمه الاتحاد السوفييتي، له نفوذ عقائدي وسياسي وعسكري هائل على 14 دولة خضعت له، لكنه تهاوى بلعبة استخبارية أميركية كتمثال من شمع واجه نيراناً هادئة.

فما هو حجم إيران الإستراتيجي في ظل النظام الحالي، وما هي مكانتها العالمية حاليا أمام دول كثيرة كالصين واليابان وألمانيا وفرنسا وغيرها لتضع نفسها في موقع القطب المناوئ للولايات المتحدة، إلا في مجال تقمص دور البطل أمام ممثلين ثانويين مثل الأحزاب الدينية العراقية رغم قناعات غالبية زعمائها مع أنفسهم بخطأ الخيال الخامنئي، لكنها تدين له بالعرفان على احتضانهم قبل العام 2003 رغم مرور 16 عاماً على هذا العرفان الذي أصبح “عتيقاً” وقبض النظام الإيراني أضعاف ثمنه البخس من ثروات شعب العراق وحريته وكرامته.

هؤلاء السياسيون العراقيون يعلمون أن فاتورة الاستعباد والذل التي يدفعونها أصبحت تهدد مستقبلهم السياسي. وهذه المشكلة الكبيرة في الإذلال والاستعباد والهيمنة ظلّت تحتاج إلى الفرصة التي تحركها وتفتح أسوار الخلاص على أيدي السياسيين العراقيين أنفسهم المحبين لبلدهم، وهم في مواقع اتخاذ القرارات الكبرى. وهم قادرون على ذلك لأن الشعب معهم، كما أن اتخاذ القرارات المصيرية لتخفيف الهيمنة الإيرانية يحتاج إلى قدرات عالية من الإرادة المستقلة وإلى تقديرات المصالح الوطنية العليا، وإلى ظهير عربي ودولي مساند للاستقلالية العراقية.

وهذا ما يمكن أن يحدث في المنعطف الحالي لمسيرة العقوبات الأميركية على طهران التي تحاول اللعب عن طريق الموالين العقائديين داخل العراق في الدعوة إلى سحب القوات الأميركية من العراق وتحريك هذا الملف عبر البرلمان، لكن تصريحات كل من رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ورئيس الجمهورية برهم صالح، تؤكد على أن مصلحة أمن العراق وسلامته تتطلبان بقاء هذه القوات، كما يحتاج هذا البلد إلى الولايات المتحدة في مختلف ميادين التنمية وإعادة الإعمار.

العراق الرخو في أمنه ما زال تحت وصاية الأمم المتحدة متأرجحا بين البندين السادس والسابع، ومن المخاطر انكشافه لتبعية مطلقة لإيران خاصة في احتمالات التصعيد وتدهور الأوضاع بينها وبين الولايات المتحدة، لأن من سيدفع الثمن الباهظ هو العراق وشعبه. وسياسة “النأي بالنفس” إن كانت صريحة وواقعية بعد تعطيل موجبات الولاء لطهران، قد تؤدي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الموقف العراقي، وهو خيار سهل إذا ما استند على الشعب. حالة العراق الراهنة تتطلب من السياسيين العراقيين داخل الحكم، وحتى لدى بعض المحتفظين بورقة العرفان للنظام الإيراني، أن يختاروا طريق الولاء لإرادة شعب العراق إن أرادوا الحياة الحرة ولا تكتب على جباههم ديباجة الموت وهم أحياء.