في اطار تنفيذ مشروع "تعزيز الحوار الاجتماعي" الممول من الاتحاد الاوروبي وفي اشراف وزارة العمل، طُلب مني كخبير رئيسي العمل مع الاتحاد العمالي العام لاقتراح مشروع لتعديل المرسوم ٧٩٩٣ المتعلق بـ"تنظيم النقابات" الصادر سنة 1952. أعرض في ما يأتي مسار العمل ومنهجيته وابرز نتائجه، واتوقف عند بعض الملاحظات المتعلقة بتفاعل الاتحاد العمالي العام مع العمل.
 
I. مسار العمل ومنهجيته
 
II. شمل النشاط تنظيم 6 ورش عمل متتالية شارك فيها نحو مئة كادر نقابي من القطاعات الاقتصادية كافة، والاتجاهات السياسية بما فيها المستقلة. وقد سجلت مشاركة متدنية نسبيا للنساء والشباب في الورش.
 
الهدف العملي لكل ورشة عمل كان جمع ملاحظات المشاركين على مواد المرسوم ٧٩٩٣ واقتراح التعديلات اللازمة عليها.
 
طلب من المشاركين وضع ملاحظاتهم واقتراحاتهم بالاستناد الى ثلاثة معايير جرى شرحها ومناقشتها:
 
مدى توافق مواد المرسوم مع مبادئ الحرية النقابية التي نصت عليها الاتفاقات الدولية رقم 87- 98- 135. كان يمكن ان نضيف اتفاقات أخرى لها علاقة بالتنظيم النقابي في القطاع العام لكننا لم نـشأ التطرق الى ذلك لان القانون اللبناني لا يعطي الحق في التنظيم لموظفي القطاع العام وتعديل المرسوم يجب ان يبقى تحت سقف القانون.
 
مدى توافق المرسوم مع مبادئ الديموقراطية في التنظيم النقابي: في غياب تعريف موحد للديموقراطية في التنظيم النقابي، اعتمدنا القواعد التي بلورتها التجربة النقابية في العالم وفي لبنان.
 
المعيار الثالث والاخير كان التجربة النقابية في حد ذاتها وما تبَيّنه من خلل في مجال تطبيق مواد المرسوم.
 
بعد تنفيذ الورش جمع الخبراء الملاحظات والاقتراحات واعتمدوا الاتجاهات الغالبة مع مراعاة عدم تعارضها مع قانون العمل اللبناني.
 
في مرحلة اخيرة جرى عرض التعديلات في مؤتمر شاركت فيه القيادات النقابية والمشاركون في الورش. وافتتح المؤتمر ممثل عن وزارة العمل الذي كانت له آراء في التعديلات وفي المناقشات التي دارت.
 
III. نتائج الورش
 
لم تقتصر نتائج الورش على التوصل الى مسوّدة مشروع تعديل المرسوم ٧٩٩٣، بل كانت ايضا مناسبة للتدرب على مفاهيم الحرية والديموقراطية النقابية وكذلك مناسبة لمراجعة التجربة والممارسة النقابية.
 
اما بالنسبة إلى النتائج الخاصة بالتعديلات المقترحة على المرسوم، فمن الصعب عرضها هنا بالتفصيل. اكتفي بالتوقف عند بعض التعديلات. واحد متعلق بالحرية النقابية وآخر بالديموقراطية النقابية.
 
كان الاتجاه العام الغالب عند المشاركين هو ضمان الحرية النقابية من خلال التعديلات ولا سيما تجاه السلطة السياسية ووزارة العمل تحديدا. لكن برزت مخاوف من الا يعود هناك مرجعية تحتكم اليها النقابات، فكانت فكرة نقل صلاحيات وزارة العمل الى الاتحاد العمالي العام وهذا ما توافق عليه معظم المشاركين.
 
اما بالنسية إلى الديموقراطية في التنظيم النقابي فجرى التوافق على ان تتضمن الانظمة الداخلية بنودا تنص على انشاء لجان مؤسسة وفروع مناطق وكذلك انشاء مجلس للمندوبين في النقابات الكبيرة الحجم، اضافة الى تحديد الولايات الانتخابية للشخص الواحد في موقع المسؤولية. كذلك جرى التوافق على تضمين النظام الداخلي نصا يعتمد نظام الكوتا في تمثيل النساء.
 
IV. ملاحظات حول الاتحاد العمالي العام
 
V. سمحت لي المشاركة كخبير في مسار العمل لاقتراح تعديل المرسوم ٧٩٩٣، بأن اخرج ببعض الملاحظات- الانطباعات المتعلقة بالاتحاد العمالي العام. سأتوقف هنا عند بعضها واترك بعضها الآخر الى مناسبة اخرى اتطرق فيها الى الموضوع بطريقة أشمل.
 
الملاحظة الاولى: لقد تعرضت في عملي مع الاتحاد العمالي العام في ما يتعلق بالمرسوم، الى ثلاث مفاجآت سعيدة. الاولى ان الذي رشحني كخبير رئيسي لهذا العمل هو صديق نقابي من "حزب الله". رغم انني في كتاباتي النقدية للاتحاد العمالي العام، أحَمّل "حزب الله" وحركة "أمل" المسؤولية عن استمرار تراجع فعالية الاتحاد العمالي العام، لسبب بسيط هو انهما صاحبا النفوذ الاكبر في التركيبة الحالية. المفاجأة الثانية هي تكليفي تعديل مرسوم يطال التنظيم النقابي وانا معروف بأطروحاتي المتعلقة بشأن التنظيم النقابي والهيكلية النقابية، التي تعتبر الاتحاد العمالي العام غير مستقل وغير ديموقراطي وبحاجة الى بناء هيكلية نقابية جديدة على اسس الاستقلالية والديموقراطية. المفاجأة الثالثة انه لم يكن ممكنا انجاز العمل لولا الجهود الكبيرة التي بذلتها القيادات النقابية في حركة "أمل" و"حزب الله".
 
الملاحظة الثانية: الرأي الغالب لدى الكوادر النقابية الذين شاركوا في الورش وفي المؤتمر كان ضرورة استقلالية النقابات عن وزارة العمل التي يعطيها القانون صلاحيات هي نوع من "الوصاية" على النقابات. هذا الموقف ما كان ليكون مستغربا من نقابيين، لولا ان معظم هؤلاء حزبيون حصلوا على تراخيص لنقاباتهم واتحاداتهم من خلال سياسة معتمدة من وزارة العمل ومنذ سنة ١٩٩٢، لاعطاء تراخيص للنقابات والاتحادات الحزبية الحليفة للوزير.
 
الملاحظة الثالثة: رغم توافق اكثرية المشاركين في الورش على نقل صلاحيات وزارة العمل الى الاتحاد العمالي العام في ما يختص بانتخابات النقابات وادارة شؤونها المالية، الا ان النقاش كان محتدماً خلال المؤتمر بحيث رفض الكثيرون هذه الفكرة التي بحسب رأيهم، كمن ينقل المشكلة من "الدلفة لتحت المزراب". حيث ان اصحاب هذا الرأي رأوا ان الاتحاد العمالي العام ليس مستقلا بل تديره تحالفات سياسية حزبية، وبالتالي ليس مؤهلا للعب دور محايد يحفظ للنقابات حريتها ولستقلاليتها.
 
صحيح ان نقل صلاحيات وزارة العمل الى الاتحاد العمالي العام مخالف للحرية النقابية كما نصت عليه الاتقاقية الدولية رقم ٨٧ الخاصة بالحرية النقابية، وبغض النظر عما اذا كان الاتحاد العمالي العام مستقلاً أم غير مستقل.
 
الأهم في الموضوع هنا هو الاشارة الى المناخ النقدي للاتحاد العمالي العام من بعض قياداته وقاعدته، الذي ساد أجواء المؤتمر. وهي ربما المرة الاولى يحصل فيها ذلك بشكل جماعي وعلني ومنذ اكثر من عشرين سنة.
 
يمكن ادراج هذه الملاحظات الثلاث في اطار ملاحظة عامة تطال عمل الاتحاد العمالي العام ككل. فمنذ انتخاب مكتبه التنفيذي منذ سنتين برئاسة بشارة الاسمر، استعاد الاتحاد العمالي العام شيئاً من صدقيته، ولا سيما من خلال دعمه بالموقف وعلى الارض للتحركات القطاعية كافة، وكذلك من خلال مراجعاته امام مجلس شورى الدولة في شأن قرارات حكومية ووزارية. وقد تعرض رئيس الاتحاد نتيجة ذلك الى شكوى امام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، بحجة تعرضه بالقدح والذم لوزير الاقتصاد خلال حلقة تلفزيونية.
 
كذلك، كان الاتحاد مشاركاً فعلياً في وضع استراتيجيا للحوار الاجتماعي في لبنان، الى جانب وزارة العمل وجمعية الصناعيين. وقد ركزت هذه الاستراتيجيا على تطوير الضمان الاجتماعي ومؤسسة الاستخدام، بالاضافة الى اعادة احياء اجتماعات لجنة المؤشر وتفعيلها.
 
هذه الامثلة غير كافية للقول ان الاتحاد العمالي بدأ بعملية اصلاح حقيقية لواقعه، فمسألة انخفاض العضوية لا تزال دون اهتمام، وقضية استقلاليته وديموقراطيته دون معالجة جدية. أضف الى ذلك، أن الاتحاد لا يزال مقصراً في مواجهة السياسات الاجتماعية الاقتصادية الحكومية وكذلك في مراجعة تحركاته السابقة بغية تفعيل تحركاته المستقبلية.
 
لعل حماسة بعض قيادات الاتحاد اليوم لعقد خلوات لقيادته من اجل وضع خطة استراتيجية تقارب مشكلاته كافة، من شأنها ان تطلق مسارا فعليا نحو التغيير.
 
لكن في هذا الجو من تشكيك الكل بالكل في هذا البلد، قد لا يجد كثيرون اي مؤشرات ايجابية في ما ذكرته اعلاه، مستندين الى نظرية ان مصلحة الاحزاب النافذة في الاتحاد العمالي العام تحول دون الاقدام على اي تغيير يعدل في موازين القوى القائمة حاليا. وان ما حصل معي هو مجرد تعاون عابر لمناسبة مشروع مموّل من الخارج وان الامر سيكون مختلفا عند مواجهة القضايا على الارض.
 
لن ارفض بالمطلق هذه الافتراضات.
 
لكني في المقابل اعتقد بإمكان تطور الوعي العمالي والنقابي بفعل التجربة، حتى عند الحزبيين منهم المرتبطين بسياسات احزاب السلطة. دلت على ذلك التجارب النقابية في الكثير من البلدان. الا اذا افترضنا اننا استثناء وان عمال بلدنا غير قادرين على تطوير وعيهم.
 
اعتقد ايضاً ان الاحزاب نفسها ومع اشتداد الازمة الاقتصادية والاجتماعية، تحتاج الى تعديل في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية و... النقابية.
 
طبعا وحده المستقبل يمكن ان يجيبنا عن تساؤلاتنا. لكن المستقبل هو نحن باقتناعاتنا وارادتنا وسلوكنا.
 
لقد اخترت ان اقرأ ايجابيا ما اختبرته في عملي الاخير مع الاتحاد العمالي العام، وساساهم في تطوير هذه الايجابيات ما استطعت.