حين يدخل المال عاملا من عوامل الحكم على الأشياء ويغلف ترك المعروف أو ترك الأمر به بالضرورات التي تبيح المحظورات وبعد أن يغلف النفاق بالتقية يصبح من الطبيعي جدا أن يلبس النص الديني جميع الأزياء وتصير النتيجة أن يقتل الحسين بملك الري كما منى عمر بن سعد نفسه.
 
لقد عاد الثالوث القديم الجديد المتعدد الرؤوس الذي دائما ما يحارب الصحوة ويهدد بتمزيقها وتشويهها ويتجلى اليوم في معالمه الثلاثة 
- الفرعونية وهي تعني الاستبداد والتسلط فكما قال الكواكبي في كتابه الشهير طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد :لو كان الإستبداد رجلا وأراد أن ينتسب لقال "أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابني الفقر وابنتي البطالة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب وديني وشرفي وحياتي المال ثم المال ثم المال .
 
والقارونية وهي تمثل الترف وشراء الذمم والتنافس على امتلاك القصور الفخمة واقتناء أفخر الأثاث ووسائل الرفاهية.
 
والرأس الثالث ما يعرف بالباعورية (نسبة إلى بلعم بن باعورا) والتي تمارس دورها في صمت وظلام وسوداوية وتخطيط متقن ،وهي ما زالت تكلف المتصدين لها والمنكبين على فضحها ضرائب باهظة أقلها التجويع والتسقيط والتصفيات الفكرية والسياسية والجسديةوالدموية . 
 
فالإستبداد يولد الإرهاب الفكري ومصادرة الحريات ومحاربة الكلمة الحرة والمواقف الجريئة وسحق واجتثاث الرأي الآخر وتسفيهه، واستحمار الأمة ،بينما ينجب الترف مواليد ممسوخة لا تعرف إلا الدعة والإسترخاء والركون إلى الدنيا والتسابق على الملذات والشهوات .
 
أما أخطر هذه الرؤوس فهو الرأس الثالث وأخطر ما فيه حين يرتدي لبوس الشرعية ويتلفع بالدين ويتفنن في توظيف النص الديني والشعارات المقدسة المدعومة هي الأخرى بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والفتاوى، وكذلك القصص والمنامات والمنتقى من سير الأئمة والصحابة والمقدسين.
 
فكما يقال أن ليس هناك أخطر على الدين من شيطان يصلي ،فإن كان هناك نصف طبيب يفقدك صحتك وأن نصف عالم يفقدك دينك فإن شيطان يصلي يفقدك دينك ودنياك معا.
 
وكما يقول رسول الله (ص)إني لا أخاف على أمتي غوغاء تقتلهم أو عدو يجتاحهم ولكني أخاف عليهم أئمة مضلين إن أطاعوهم فتنوهم وإن عصوهم قتلوهم.
وأيضا وفي الحديث الشريف عن رسول الله (ص) قال : يأتي زمان على أمتي علماؤه أسوأ العلماء وفقهاؤه أسوأ الفقهاء قيل ومن هم يا رسول الله قال أولئك الذين يزهدون الناس بالدنيا ولا يزهدون ويرغبونهم بالآخرة ولا يرغبون ،يقربون الأغنياء ويبعدون الفقراء.
 
فالفتنة التي تعصف بالإنسان المؤمن اليوم ليست تلك التي تأتي من الخارج كالاتهامات بالأصولية والتطرف والإرهاب وما إلى ذلك من عبارات وشعارات يطلقها أعداء الأمة وبعض الأبواق الإعلامية المأجورة المذعورين من الصحوة الإسلامية الحقة،إنما الفتنة تأتي من توظيف الشعارات الدينية والنصوص لخدمة أهداف هابطة، سياسية وغير سياسية لتبرير انقضاضهم على ما في أيدي الناس ولتمرير مصالح مبيتة تعزف ألحان الدين وموسيقى الموشحات فيصدقهم الملايين من أبناء الإسلام بعفويتهم وصدقهم وبراءتهم، حتى أنك ترى نفس الشعارات ونفس الأحاديث في سياقات متعددة وأحيانا متناقضة لدعم نفس الإتجاه السياسي أو ضربه حسب الحاجة والمصلحة.
 
فهناك توظيف مقصود وتحميل النص الديني ما لا يعنيه لتفريغه من مفاهيمه الحقيقية وتسفيهه عبر تسطيحه أو تغليفه واستخدامه في اتجاهات مختلفة فيصبح الفرد خال من أي لون من ألوان الصدق مع الله أو مع الذات أو مع الضمير.
 
فإذا قال قائل أو قام قائم لمحاربة أحد هذه الرؤوس كالترف مثلا والذي هو أساس الفسوق كما بالنص القرآني "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " "الإسراء الآية 16" رفع المترفون من وعاظ السلاطين شعار ليس الزهد أن لاتملك شيئا إنما الزهد أن لا يملكك شيء،وقل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق بعيدا عن الظرفين الزماني والمكاني وبعيدا عن الأحكام الأولية والثانوية فيصير امتلاك القصور أمرا مباحا بل محببا واقتناء أحدث السيارات أمرا ضروريا وواجبا والتسابق فيما بين زوجاتهم لإقتناء أفخر الأثاث وأفخم السيارات أمرا مشروعا وغير ساقط.
 
وهكذا يبدأون بتبرير أعمالهم بالآيات والأحاديث الشريفة حتى كأنك ترى عذرا للخليفة الثالث عندما رد عليه أبو ذر"رض" أن رسول الله (ص) لم يترك قيراطا وقد ترك عثمان قنطارا ، وكيف أجابه الخليفة ،أنه إنما فعل ذلك قربة إلى الله تعالى وهذا ما ينبغي أن يكافأ عليه ولا يعاتب.
والأمر الأدهى أنهم تملكوا بسلطان السيف والإعلام وكذلك تأويل الأحكام التي لا يعرفها إلا هم (وعاظ السلاطين ) وهم يمتلكون النص وتفسيره وتأويله ولهم وحدهم حق الإفتاء وحق التعبير والخارج عليهم إنما هو إما جاهل لا يعرف دينه أو مغامر يبحث عن شهرة ومصلحة أو متبع هوى أو مثير بدعة أو رائد فتنة ، وفي أحسن الأحوال منفعل مسكين لا يميز بين الفعل ورد الفعل أو بين الغضب لله والإنفعال للذات ولا يقدر الأولويات وقد نسوا أو تناسوا ما قاله رسول الله (ص):ومن العلماء من إذا وعظ أنف وإذا وعظ عنف فذاك في الدرك الثاني من النار ومنهم من يطلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو ليصرف وجوه الناس اليه فليتبوأ مقعده من النار .
 
فمصيبة الدين في جميع عصوره فئتان فئة أساءت استخدامه وفئة أتقنت استغلاله فالتي أساءت استخدامه ضللت المؤمنين به والتي أتقنت استغلاله أعطت الجاحدين حجة عليه .
 
إذن فالمال والسلطة هما أهم وسيلتين لكشف وتشخيص الخبيث من الطيب والطارئ من الأصيل وللتمييز بين الدعاة وبين الأدعياء وبين الحكيم والمتحكم وبين الباكي والمتباكي إذ ليس كل باك حزينا وليس كل باكية ثكلى وليس كل فقير زاهد 
وصدق الشاعر حيث قال :
لقد كشف الإثراء عنك خلائقا من الخبث كانت تحت ثوب من الفقر .
وعودا على بدء وبعد أن لوى فرعون أعناق الرجال باستبداده وصلفه وطغيانه وبعد أن خدرهم ابن باعورا بالمتشابهات من كلام الله وعزاهم بالصمت والسكوت على الظلم حتى يوم الحساب ،يأتي الدور القاروني ليشتري الذمم والضمائر بالدراهم والدنانير التي يسيل على لونها اللعاب ويتساقط على بريقها أشباه الرجال ، أي حين ضاقت وسائل المستبد في الغدر والمسكنة والظلم والإساءة جاء دور المال ليكون الدين والشرف والحياة .
 
وحين يدخل المال عاملا من عوامل الحكم على الأشياء ويغلف ترك المعروف أو ترك الأمر به ب"الضرورات التي تبيح المحظورات " وبعد أن يغلف النفاق بالتقية يصبح من الطبيعي جدا أن يلبس النص الديني جميع الأزياء وتصير النتيجة أن يقتل الحسين بملك الري كما منى عمر بن سعد نفسه حين قال "
أأترك ملك الري والري منيتي أم أرجع مأثوما بقتل حسين
ويقتل الإسلام بإسم الخراج وتسبى الأمم والشعوب بشعار وامعتصماه وتصبح أموال المستبد هي الدين الذي يعبد من دون الله وهي القبلة التي يتوجه شطرها عشاق الدراهم والدنانير فيكون خلاصة منهجهم ما نقله المؤرخون عن ذاك الإعرابي المغفل المسكين الذي جلس يبكي على قبر حجر بن عدي بعد مصرعه وحين سئل لما تبكي عليه فأجاب لأنه قتل مظلوما رضوان الله عليه فقيل ومن قتله فقال سيدنا معاوية رضوان الله عليه ولما قتله سيدنا معاوية فأجاب لأنه امتنع عن سب سيدنا علي رضوان الله عليه .
فمن هو الظالم ؟القاتل ؟أم المقتول؟ ومن المعتدي ؟الذي فقئت له عينا أم الذي فقئت له عينان؟ ومن هو الجاني ومن المسؤول ؟ فرعون الذي طغى وتجبر أم الأمة التي استسلمت لطغيانه وجبروته ؟ ومن المدان أو الأكثر إدانة قارون الذي وهب المال واشترى ذمم الرجال أم الرجال الذين استسلموا للمال وباعوا الذمم؟
نعم من المسؤول قارون صاحب المال أم الأمة التي استسلمت لقارون بعد أن استلمت أمواله وراحت تبلع وتبصق وتحولت إلى كائنات بشرية لإنتاج الأخبثين، وفي أحسن الأحوال إلى بشر يتحركون بين المطبخ والكنيف أو أنهم بشر لا يختلفون عن بقر الجنة لا ينطحون ولا يمرحون .
ترى من سيكون حسابه يوم الحساب أكبر ؟ بلعم بن باعورا الذي اشترى بآيات الله ثمنا قليلا؟ أم الناس الذين يستمعون لأمثاله اليوم وهم يقرأون القرآن ويرددون الأدعية المأثورة المسيلة للدموع؟
نعتقد أن الكل مسؤول ومحاسب ومعاتب وان اختلفت درجات الحساب أو العتاب ومستوياته.
"والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب " الزمر الآية 17_18.