تحصر الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية اهتمامَها الإصلاحي في لبنان بملفّ الكهرباء في هذه المرحلة. والمعادلة أصبحت واضحة، إذا نجحت خطة تأهيل الكهرباء يبدأ تنفيذ «سيدر»، وإذا فشلت أو تعثرت يلحق بها «سيدر».
 

هناك مجموعة اسباب تدفع الدول التي خصّصت أموالاً لدعم لبنان في مؤتمر باريس في نيسان 2018، الى تحويل ملف الكهرباء الى شرط إلزامي أول، لبدء تدفّق الأموال المخصّصة لتنفيذ لائحة طويلة من مشاريع البنى التحتية.

طبعاً، الجانب المالي والاقتصادي في هذا الملف قد يكون السبب المباشر الذي يدفع المجتمع المانح الى التركيز على الكهرباء دون سواها. خصوصاً أنّ البلد قفز في المجهول عندما زادت نسبة العجز في الموازنة من 8 الى 11 في المئة قياساً بحجم الاقتصاد.

وكان يُفترض أن تبدأ بالانخفاض التدريجي وفق التزامات الحكومة اللبنانية بمعدل 1 في المئة سنوياً. وبالتالي، وبما أنّ الكهرباء كانت تستهلك لوحدها حوالى 32 في المئة من العجز العام، ارتأى القيّمون على «سيدر» أنّ وقف الهدر في هذا القطاع الحيوي هو الطريق الأسرع نحو خفض العجز أولاً، خصوصاً بعدما تبيّن لهم أنّ العودة عن سلسلة الرتب والرواتب ليست من ضمن الخيارات التي تستطيع الحكومة الإقدام عليها. كذلك، بعد رفض اقتراح خفض قيمة العملة الوطنية، كطريقة سريعة لخفض الإنفاق الحكومي على رواتب موظفي القطاع العام.

ومن الأسباب التي تدفع المانحين الى التركيز على الكهرباء حصراً، أنّ تأمين الطاقة 24 ساعة، وفي كل المناطق له أهمية خاصة في تشجيع الاستثمار والأعمال.

لكن الى جانب الحافز المالي والاقتصادي، هناك حافز نفسي لا يقل أهمية، عن الجانب المالي. ومن أجل فهم هذا الحافز، لا بد من الاطّلاع على ما كتبه تيد كيس في كتابه «أعمدة وأسلاك وحرب»، (poles,wires and war)، عن المحاولة التي جرت خلال الحرب الفيتنامية قبل أكثر من نصف قرن.

يروي كيس أنّ مواطناً أميركياً من ولاية أركنساس كلايد إليس، وكان يشغل موقع رئيس «الرابطة الوطنية للكهرباء الريفية التعاونية» (NRECA)، قدّم اقتراحاً الى الرئيس الأميركي ليندون جونسون في العام 1965، قال فيه «إمنح الكهرباء الى الفيتناميين في الجنوب، وستربح قلوبهم وعقولهم في الحرب ضد الشيوعية».

اقتنع جونسون بالاقتراح، وبدأت مغامرة إيصال الكهرباء الى مناطق ريفية تتعرّض لحرب شرسة. وتتضمّن الرواية سرداً مفصّلاً لأنواع المصاعب التي واجهها الفريق الذي تولى مَهمّة إضاءة منطقة حربية في الريف الفيتنامي.

يقول كيس عن هذه التجربة: «لقد كان جهداً جيداً حقاً. ذهب فقط 20 رجلاً الى هناك في فترة خمس سنوات. كانت هذه أصعب الجمعيات التعاونية التي تمّ تأسيسُها في تاريخ برنامج التعاون الكهربائي.

حاول الجنود الفيتناميون الذين كانوا يقاتلون ضد الفيتناميين الجنوبيين قطعَ خطوط التعاون وتدمير الأعمدة وتفجير السدود... واجه الأشخاص الذين يحاولون تأسيس التعاونية فساداً مستشرياً وعجزاً عن الحصول على أعمدة ومواد أخرى. في النتيجة، أسّسوا ثلاث تعاونيات وشغّلوها وجلبوا الضوء لآلاف القرويّين.

عندما يُسأل كيس كيف ساعدت الكهرباء ما دامت الحرب انتهت بفوز فيتنام الشمالية، وبالتالي، لم تنجح نظرية كسب الحرب بالكهرباء، لا يجيب حول تفاصيل النتائج التي انتهت اليها الحرب، ربما لأنه يعتبر أنّ الخسارة والفوز في هذه الحرب كانت لهما اسباب كثيرة مختلفة تماماً عن مفعول منح الكهرباء للقرويين في فيتنام الجنوبية، لكنه يكتفي بالتذكير بواقعة وحيدة.

يقول: «القرويون الفيتناميون ارادوا جهاز راديو. أرادوا مكواة وأضواء للقراءة. في نهاية الحرب تقريباً، عندما كان الشيوعيون يتدفّقون عبر البلاد في العام 1975، (وقد كسبوا الحرب وبدأوا عمليات تنظيف الجيوب المقاومة) وصلوا إلى مدينة كانت واحدة من مقرات الجمعية التعاونية (الجمعية التي أمّنت الكهرباء للريف). تصدّى الأهالي في البلدة للهجوم الشيوعي وقاتلوا في واحدة من أكثر المعارك بطولية في الحرب والتاريخ. كانوا يقاتلون من أجل الكهرباء. كانوا يقاتلون من أجل ما بنوا».

الى هنا تنتهي رواية كيس الفيتنامية، ويمكن أن يستشفّ اللبناني لماذا يصرّ القيمون على «سيدر» على الكهرباء أولاً، لأنهم في الواقع يريدون ان تمنح الدولة مواطنيها سبباً للقتال من أجله. وهم اليوم لا يملكون أيَّ سبب للقتال من أجل دولتهم...