إنتهت «الدوشة» الخارجية ليبدأ «صداع الرأس» الداخلي. غادر وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو بعد زيارة مثيرة، في الشكل، حيث تضمّن برنامجها محطات لم يسبقه اليها أيُّ زائر أميركي على هذا المستوى، كما في المضمون بدءاً من البيان الرسمي المكتوب الذي تلاه في وزارة الخارجية اللبنانية واحتوى عبارات ومفردات عنيفة ضد إيران و«حزب الله» وصولاً الى العرض الذي قدّمه في الغرف المغلقة حول استعداد بلاده للتوسط في إحياء المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية، ولو وفق أفكار جديدة.
 

و«الدوشة» الخارجية الثانية كانت مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الرسمية لموسكو بعد طول انتظار وأخذ ورد، وبترتيب الكنيسة الارثوذكسية الروسية.

هذه الزيارة تعرضت لعدد من الانتقادات الداخلية في الكواليس والغرف المغلقة لدى مختلف التيارات والقوى السياسية على تنوّع انتماءاتها. البعض يأخذ عليها أنها خلت من النتائج وتوقيع اتفاقات بين البلدين وهو ما يحصل عادة في ختام زيارات من هذا النوع. وبالنسبة الى هذا الفريق فإن هذا ما يفسّر اختصار الوفد المرافق بسبب عدم وجود اتفاقات للتوقيع. ويغمز هؤلاء بخبث من زاوية تحضير المعركة الرئاسية للوزير جبران باسيل.

وأما البعض الآخر فيأخذ على الزيارة عدم التحضير لها مسبقاً من خلال مؤسسات الدولة اللبنانية، وكذلك من خلال طرحها في مجلس الوزراء.

فيما البعض الثالث انتقدها سياسياً ومن خلال طرح الوفد اللبناني للدور الروسي في الشرق الاوسط حامياً للمسيحيين والاقليات، وفي استعادة لطرح تحالف الاقليات في المنطقة.

وحتى بالنسبة الى إعادة النازحين السوريين فإنّ المبادرة الروسية بدت وكأنها عالقة أمام جدار تمنّع الدول الغربية عن المساهمة المالية ما يجعلها تفتقد إمكانيةً تُحركها. وهذا ما ظهر واضحاً في البند السابع من البيان الروسي- اللبناني المشترك في ختام المحادثات.

في اختصار فإنّ «الدوشة» الخارجية انتهت على مضض قبل عودتها مجدداً وبقوة أكبر بعد انتهاء الانتخابات الاسرائيلية وكشف الادارة الاميركية عن مشروع «صفقة القرن» الذي يتضمّن بند توطين الفلسطينيين في أماكن وجودهم، ولبنان أوّل المعنيين بهذا القرار.

وما بين هاتين «الدوشتين»، يدخل لبنان في مرحلة «صداع الرأس» بسبب الملفات الداخلية الصعبة والوضع الاقتصادي والمالي الخطير للدولة اللبنانية وسبل المعالجة.

لبنان محكوم بإصدار موازنة متقشفة وهو ما تبدو الحكومة عاجزة عن إنجازه حتى الآن. لكنّ اصدار هذه الموازنة مسألة حتمية والتي يجب أن تلحظ تخفيضاً في نسبة العجز.

والملف الثاني الأصعب والذي يختزن كثيراً من «الألغاز» وسيدور كثير من المعارك حوله، هو ملفّ الكهرباء. فعدا عن بعض الاختلافات في وجهات النظر حول الشقّ المتعلق بالطاقة الدائمة في الخطة المطروحة والتي ترتكز في اساسها على خطة العام 2010، فإنّ المعارك الاساسية ستدور حول الشق المتعلق بـ«الطاقة الموقتة»، وتحديداً في موضوع استئجار باخرة ثالثة للكهرباء.

في العلن والتصريحات الرسمية هنالك تنصّل، لا بل نفي لوجود طرح للاستعانة بباخرة ثالثة. لكنّ الكلام الذي تضجّ به الكواليس ينبئ بالعكس.

وفي آخر تأكيد لذلك، ما قاله رئيس المجلس النيابي نبيه بري من أنّ «حلّ البواخر جُرِّب»، واصفاً إياه بـ«الجرصة».

موقف بري يؤكد ما هو متداول في الكواليس حول وجود «دفع» في إتجاه إعتماد خيار الباخرة الثالثة ومن الشركة نفسها. قبله كان كلام لرئيس حزب «القوات اللبنانية» حول الموضوع نفسه.

في المقابل فإنّ الضغط الحاصل الذي تمارسه الدول المانحة والبنك الدولي للسير في معالجة ملف الكهرباء مدخلاً إلزاميّاً للشروع في ورشة الاصلاح وإنقاذ الاقتصاد اللبناني المتهالك، يتم استخدامُه بين المتناحرين والمتنازعين سلاحاً لتطويع رأي الفريق الآخر.

في هذا الملف حتى الآن اصطفافان يُضاف اليهما فريقان قادران على إحداث الفارق وتأمين الحسم.

في الاصطفاف الاول يقف «التيار الوطني الحر» الذي قدّم خطته المنقّحة من خلال وزيرة الطاقة ندى البستاني.

وفي الاصطفاف الثاني يقف بري ومعه «القوات اللبنانية»، وكذلك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ولو أنه اختار حتى الآن الصفوف الخلفية لأسباب تتعلق بالأوضاع الدرزية.

أما الفريقان القادران على إحداث الفارق، فهما:

ـ أولاً، الرئيس سعد الحريري. وتردد كثيراً في الاروقة والكواليس السياسية القريبة منه أنّ هجوم باسيل العنيف عليه في احتفال 14 آذار الماضي كان بسبب تمنّعه عن السير في خيار الباخرة الثالثة على حدّ ما عرض عليه باسيل في لقائهما الشهير.

وتروي هذه الكواليس انّ الحريري ابدى ميله لاعتماد خيار شركة «سيمنز» التي تحمل عرضاً يشمل إنجاز معامل الكهرباء، أي الطاقة الدائمة، وكذلك تأمين الطاقة الموقتة من خلال امكاناتها.

وعلى ذمة أخبار «كواليس» تيار «المستقبل» فإنّ تدويراً للزوايا حصل لدى كلا الطرفين وعلى اساس طرح تصوّر «سيمنز» في مجلس الوزراء على أن يتم طرح موضوع الباخرة فور سقوط تصوّر «سيمنز» بسبب الرهان على رفض «حزب الله» مبدأ إمساك الشركات الأجنبية بالمفاصل الحيوية اللبنانية من دون ضمانات لبنانية كاملة.

ـ ثانياً، «حزب الله» الذي حرص على عدم التعليق أو إصدار أيّ موقف حول الكهرباء حتى الآن، والذي لن يعلن موقفه الّا خلال انعقاد جلسة مجلس الوزراء.

لكنّ ثمّة مؤشّرَين في هذا المجال:

ـ الاول وله علاقة بموقف بري والذي لا بد من أن يحمل تفاهماً شيعياً داخلياً حول موضوع الكهرباء والاستعانة بالباخرة الثالثة.

ـ الثاني ما تسرّب حول انجاز الفريق الذي كلفه «حزب الله» ملاحظاته المتعددة على خطة الكهرباء المطروحة والتي تصيب أكثر من محور رئيسي فيها، كمثل السؤال عن سبل تأمين الكهرباء بنحو كامل في العاصمة وجبل لبنان خلال سنتين ورفع التعرفة في ما تبقى من محافظات الشمال والبقاع والجنوب حتى ثماني سنوات وفق التعرفة الحالية. وكذلك نقاط أخرى يحرص على طرحها خلال الجلسة.

وهنالك مَن يقول إنّ إسقاط «حزب الله» عرض «سيمنز» سيؤدي حكماً الى الذهاب الى خيار الباخرة الثالثة انسجاماً مع وعد الحريري واستناداً الى التصويت.

ويبقى موقف رئيس الجمهورية الذي وعند دخوله على الخط بقوة لمصلحة وجهة نظر باسيل، «سيجعل الحريري أكثر ليونة» ويضيف هامش حركة «حزب الله» ربطاً بالمواقف السياسية التي يعلنها لبنان.