مفهومٌ أن يمنح البرلمان الحكومات الحديثة الولادة مهلة المئة يوم قبل أن يستدعيها ليسائلها ويستجوبها، ليطرح الثقة بها اذا ما أثبتت فشلها (لم يحصل أبداً). هذا من أعراف الأنظمة البرلمانية. هي مهلة سياسية لا طابع إلزامياً لها. ما هو غير مفهوم، أن يذهب رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أبعد من ذلك: سلّط السيف على رقاب وزرائه الثمانية من خلال توقيعهم استقالاتهم، مانحاً نفسه وإياهم مهلة مئة يوم لإثبات قدرتهم على تحقيق الإنجازات.
 

في 16 شباط الماضي نالت الحكومة ثقة المجلس النيابي بغالبية 110 نواب في مقابل 6 نواب حجبوا الثقة من أصل 116 نائباً حضروا الجلسة. فيما أعلن باسيل في مؤتمر صحافي عقده في 4 آذار الماضي عن سلة أهداف يسعى فريقه الوزاري الى تحقيقها، «لنلزم بها انفسنا وهي سابقة»، كما قال يومها، واعداً بأننا «سنواجه الرأي العام بعد الـ 100 يوم لنكشف ما حققناه وما لم نتمكن من تحقيقه».

يوحي «التيار الوطني الحر» أنّ الحكومة الحالية هي «يتيمة» عهد الرئيس ميشال عون و«غنوجته». لا قبلها ولا بعدها. الحكومة الأولى بدت وكأنها «لقيطة» لا أبوين لها، وفي أحسن الحالات كانت مرحلة «تدرج» قبل مواجهة الامتحان الجدي. فإما تنجح هذه الحكومة وينجح معها «التيار الحاكم»، وإما يفشل الاثنان معاً. الالتصاق بينهما ليس خياراً وإنما علّة الوجود. وبالتالي، في النجاح سرّ البقاء.

لا بل أكثر من ذلك، يثبت الرسم البياني لأداء باسيل منذ اقتناصه المقعد النيابي من حَلق الفشلين السابقين (2005 و2009)، وكأنه صار على «عتبة» القصر الجمهوري، مشروع «رئيس حتمي» محمي بقبّة حديد تؤمنها أكبر كتلة نيابية، لا «ولي عهد» أو «رئيس ظل»، حسب الألقاب الرسمية التي تحوط به راهناً.

هكذا، يصير واجباً على العهد، وفريقه الوزاري بذل جهود مضاعفة لفرض خريطة طريق علاجية انقاذية من الانهيار الاقتصادي الحتمي، بشهادة المنظمات الدولية. وتصير مهمة باسيل في انجاح ثلثه الوزاري أكثر من ضرورية لينهي العهد ولايته بأقل الأضرار الممكنة، خصوصاً أنّ نتائج الـ2018 لم تكن مرضية بالنسبة الى حضور «التيار الوطني الحر» في البيئة المسيحية الحاضنة.

يدرك باسيل جيداً أنّ تحصين ترشيحه يمر حكماً بتثبيت موقعه كماروني متقدم على غيره من الموارنة، خصوصاً اذا ما نجح في توسيع رقعة الفارق الجماهيري بينه وبقية المرشحين، لتكون ورقة ترشيحه قوية، خصوصاً أنّ وحدة تكتل «لبنان القوي» ليست مضمونة على المدى البعيد، أو في الجيبة.

بهذا المعنى هو يبحث عن «إبرة» الإنجازات في «كومة المصائب» التي تضرب الوضعين الاقتصادي والمالي، لتقديمها للرأي العام بما يسمح له بتجاوز خصومه الموارنة.

ومع ذلك، قطعت مهلة المئة يوم نصف الطريق، وقد مضى خمس وأربعون يوماً على نيل الثقة، فيما الانجازات لا تزال «حلم ليلة صيف»، لا بل أشبه بـ«هلوسة» غير قابلة للعلاج النفسي، طالما أنّ الخلافات بين مكونات الحكومة لا تزال على حالها. في المقابل فإنّ جرعة التخدير التي يلوح بها المجتمع الدولي لتأجيل الانهيار، من خلال مشاريع مؤتمر «سيدر» الاستثمارية لا تزال مرهونة بشرطين أساسيين أعلنهما أكثر من مسؤول غربي:

إقرار موازنة تقشفية تثبت بالأرقام خفض العجز بنسبة 5% على خمس سنوات أي بمعدل 1% سنوياً ما يعني نحو 560 مليون دولار سنوياً، ومعالجة أزمة الكهرباء لوقف استنزافها الخزينة العامة على نحو جذري ونهائي.

حتى الآن، تحول الخلافات دون التفاهم على المسألتين. يدرك الجميع أنّ الموازنة التقشفية تستدعي خفض النفقات، ما يعني أنّ على القوى السياسية جميعاً مواجهة الرأي العام والتسلح بقرارات شجاعة تستهدف وقف النزيف والهدر المقونن في البنود الإنفاقية. لكن النزاع «المكتوم الصوت» الذي شهدته الأيام الأخيرة يظهر بما لا يقبل الشك أنّ كل فريق يحاول تجنب تجرع الكأس المرة ودفعها في اتجاه الأخرين ليدفعوا من كيس التنفيعات التي تؤمنها لهم الموازنة العامة.

 

لا بل أكثر من ذلك، يقول أحد النواب المتابعين للملف الاقتصادي إنّ القوى السياسية التي «حشت» الإدارة طوال الأشهر الماضية بتوظيفات نفعية، لا يمكن لها أن تتحلّى بالمسؤولية والدفع في اتجاه قرارات غير شعبية.

وتمعن القوى السياسية في سياسة المناكفة والنكد وكأنها تراهن على يد خفية انقاذية، كما أبلغ أحد المسؤولين الغربيين الى مضيفيه، مع أنّ الإشارات توالت من أكثر من مصدر في أنّ اللبنانيين مسؤولون عن معالجة تدهور ماليتهم العامة.

بطيش: ايجابية الداخل غير كلام الخارج

وفي هذا السياق يقول وزير الاقتصاد منصور بطيش لـ«الجمهورية»: «إنّنا كفريق سياسي وضعنا أهدافاً محددة للعمل على تحقيقها، ولكن اذا تعرضنا للعرقلة، فستكون مسألة ثانية». يشير إلى أنه كوزير للاقتصاد يعمل بجدية وفاعلية وهو «مستعد للمثول أمام امتحان المئة يوم لتقديم جردة حساب مفصّلة لما تسلمه وقام به وأنجزه».

في المقابل يأسف بطيش للإشارة إلى أن «ما يجري على طاولة مجلس الوزراء من ايجابية في التعاطي من مختلف الأطراف لا يشبه أبداً الحدّية في الكلام التي تشهدها المنابر الاعلامية».

اللجنة الوزارية «مكملة»

إلى ذلك، يبدو أنّ الخلافات حول خطة الكهرباء ستستهلك مزيداً من الوقت والنقاش على طاولة اللجنة الوزارية، حيث يقول أحد الوزراء المشاركين لـ«الجمهورية» إن رئيس الحكومة يعطي اللجنة كل الوقت الذي تحتاجه للتوصل إلى تفاهم وزاري حول الخطة، وبالتالي اذا لم تتمكن اللجنة من انجاز هذا الاتفاق في اجتماعها هذا الأسبوع، وهو المرجح، فلن يكون من الضروري وضعُ الخطة على جدول أعمال مجلس الوزراء في جلسته المقبلة، وذلك على خلاف ما كان أبلغه رئيس الجمهورية إلى أعضاء اللجنة حين منحهم مهلة أسبوع، وإلّا العودة إلى مجلس الوزراء.

حتى اللحظة، يتبين، حسب المعلومات، أنّ الخلافات تتمحور حول النقاط الآتية:

ـ أولاً، الجهة التي ستتولى اجراء المناقصات حيث يميل كل من رئيس الحكومة سعد الحريري وباسيل إلى ترك هذه المهمة لمؤسسة كهرباء لبنان، في حين يفضل الآخرون احالتها إلى ادارة المناقصات.

ـ ثانياً، المرحلة الانتقالية حيث يخشى «التيار» تقديم البواخر كحلّ أقل كلفة وأسرع تنفيذاً في ضوء الحملات التي شُنت ضدّ هذا الخيار، خصوصاً وأنه سيكون من الصعب اقناع الرأي العام في طريقة دفع الشركة المشغّلة لهذه المعامل الى خفض السعر، بينما أبقي على السعر مرتفعاً خلال السنوات الماضية!