مع إنحسار الغبار السياسي الذي أثارته زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو للبنان قبل أيام نتيجة المواقف المكتوبة التي أعلنها ضد «حزب الله» وإيران، تجد السلطة نفسها وبكل مندرجاتها أمام استحقاق إعادة ترتيب أولوياتها على كل المستويات، علّها تتمكّن من تحقيق بعض ما وعدت به في بيان «حكومة الى العمل»، وفي مقدّمه مكافحة الفساد ووقف الهدر في المال العام.
 

يؤكّد الذين إطلعوا على اجواء لقاءات بومبيو اللبنانية، أنه لن يكون هناك شيء اسمه «ما بعد زيارة بومبيو»، فما كان قبلها هو نفسه سيستمر ما بعدها، لأنّ ما أعلنه لم يكن جديداً في الموقف الأميركي من «الحزب» وإيران.

ولذلك، ما أن غادر لبنان حتى عادت الأوضاع الداخلية الى ما كانت عليه عشية الاتفاق على الحكومة، خصوصاً أنّ ردّ الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله على مواقف بومبيو لم يستفز أي فريق من الأفرقاء السياسيين اللبنانيين، لأنّ ما شاع عن الذين التقوا رئيس الديبلوماسية الأميركية انهم رفضوا الأخذ بما ذهب إليه ووجدوا فيه حضاً على الفتنة بين اللبنانيين.

وعليه، يرى بعض الأوساط المعنية، أنّ جميع الأفرقاء المنضوين في السلطة هم الآن أمام اختبار جديد لإظهار الانسجام السياسي داخل السلطة، وتحديداً داخل الحكومة، وكذلك لإعادة ترتيب الأولويات، وهل ستكون موازنة 2019 هي أولوية هذه الأولويات، خصوصاً أنّ المُقرّر، بل المطلوب، أن تكون موازنة إصلاحية التزاماً لمقررات مؤتمر «سيدر» تحت طائلة فقدان المليارات الاحد عشر من الدولارات التي تقرّرت تحت عنوان إنعاش لبنان مالياً تمهيداً لوضعه على سكة المعالجة الإقتصادية والمالية لاحقاً.

إلاّ أنّ شكوكاً وظنوناً كثيرة بدأت تلف مصير هذه الموازنة التي لم تُعِد الحكومة مشروعها بعد، على رغم من أنّ وزارة المال أنجزت كل ما هو مطلوب منها، وما على مجلس الوزراء إلّا الإنكباب على جلسات متلاحقة لدرسها وإقرارها ثم إحالتها إلى مجلس النواب ليدرسها بدوره ويقرّها. فيما يتحدث كثيرون عن أنّ هذه الموازنة لن تتمكن الحكومة من إنجازها قبل أيار المقبل.

وتؤكّد هذه الأوساط، أنّ هذه الموازنة أريد لها أن تكون إصلاحية ليس فقط إستجابة لمقررات «سيدر» فقط، وإنما إستجابة ايضاً لموجبات عملية مكافحة الفساد التي تُعتبر من الوسائل الاصلاحية الناجعة لمالية الدولة المأزومة، علماً أنّ النيابة العامة المالية باشرت تحقيقاتها في الملفات المتعلقة بالحسابات المالية للدولة منذ عام 1993 وحتى اليوم، في ضوء المعطيات التي تلقتها من الدوائر المختصة ومن كتلة «الوفاء للمقاومة»، حيث يتم الإستماع في هذه المرحلة إلى إفادات موظفين، على أن يُبنى على الشيء مقتضاه في ضوء هذه الإفادات.

على انّ الدستور يُلزم بوجوب إقرار قطع الحساب شرطاً ضرورياً ولازماً لإقرار الموازنة السنوية للدولة، ولكن الى الآن لا موازنة 2019 أُنجزت، ولا قطع الحساب ممرها الإلزامي الى إقرارها ونفاذها قد أُقِر أيضاً.

ويقول عاملون على مكافحة الفساد، انّ إقرار موازنة 2019 ليس مرهوناً بإقرار قطع الحساب المالي للعام 2017 فقط، بل بتصحيح الحسابات المالية للدولة منذ العام 1993 وحتى العام 2017 وذلك بعد إعادة تكوينها.

وحسب أوساط نيابية بارزة، انّ الفريق المختص في وزارة المال تمكّن من إعادة تكوين الحسابات المالية للدولة لعشرين سنة منذ العام 1997 الى العام 2017، وان قطوعات هذه الحسابات موجودة الآن في ديوان المحاسبة العمومية، وتحتاج منه اسبوعين فقط حتى يُنجز درسها ويصادق عليها ويرسلها الى مجلس النواب ليدرسها بدوره ويقرّها لينصرف بعدها الى درس الموازنة وإقرارها.

ولكن هذه الأوساط تؤكّد ان ليس هناك اي مؤشرات الى ان هذه القطوعات الحسابية وصلت الى مجلس النواب او أُعيدت الى الحكومة لترسلها الى المجلس مرفقة بمشروع موازنة 2019.

وتقول الاوساط نفسها، انّ في امكان ديوان المحاسبة والحكومة إرسال قطوعات الى المجلس، الذي بإمكانه ان يدرسها ويقرّها بمعزل عن مشروع الموازنة الذي لا يمكن دستورياً إقراره من دون إقرار قطع الحساب.

فأهمية قطع الحساب انّه يُظهر المجالات التي أُنفقت فيها الاموال العامة سواء في مجالات تنفيذ مشاريع او شراء تجهيزات او إنفاق على تلزيم مشاريع واعمال بالتراضي او بواسطة مناقصات وغيرها، بحيث تدقق الاجهزة المختصة في مدى مطابقة الاسعار مع الواقع.

ويعطي احد المعنيين في هذا المجال مثالاً على عينة من عينات الفساد والهدر المعششين في ادارات الدولة، فيشير الى انّ إحدى هذه الادارات إشترت نحو 12 جهاز تكييف وتبريد بسعر ألف دولار لكل جهاز ولدى التدقيق تبين ان سعر كل جهاز من هذه الاجهزة الموجودة في الاسواق لا يتعدى 300 دولار.

وتبدي المصادر إيّاها خشية من احتمال وجود «تأخير متعمّد» في إعداد موازنة 2019 وأقرارها، بغية إيصال البلاد الى لحظة يقدّم المعنيون فيها قطع حساب 2017 فقط من دون قطوعات الحسابات من سنة 1997 حتى 2016، لأنّ النجاح في تصحيح حسابات الدولة وضبطها على أسس صحيحة وسليمة من الآن وصاعداً يشكّل مدخلاً اساسياً لمكافحة الفساد والهدر في المال العام، ويمكّن من وضع موازنات صحيحة واصلاحية مستدامة.