منطقي أن يشارك لبنان، على الأقل، في مفاوضات أستانا للتسوية في سوريا. فبعدما كان متورِّطاً في النزاع السوري من خلال مشاركة «حزب الله» في القتال، وملف النازحين وملفات أخرى، جاء الاعتراف الأميركي بضمّ الجولان ليجعل لبنان في صميم الاشتباك أو التفاهم بين سوريا وإسرائيل... يوماً ما.
 

لم يزوِّد السوريون هيئة الأمم المتحدة الخرائط التي تثبت أنّ مزارع شبعا لبنانية، على الأقل في جانب منها. وعلى رغم من أنّ القيود العقارية في هذه المنطقة مسجّلة في لبنان، فإن السوريين لم يبادورا إلى مساعدة لبنان على الخروج من المأزق وإثبات لبنانية المزارع. ولم يقدِّم السوريون تبريراً لذلك، منذ أن تحرَّر الجنوب اللبناني عام 2000، وتمّ تنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 425، على رغم من أنهم كانوا يسيطرون على لبنان ويتحكّمون بالشاردة والواردة فيه، ومعهم حليفهم «حزب الله» الذي أعلن إنجاز التحرير.

قال الإسرائيليون: «أخذنا المزارع في حرب 1967 ضمن الجولان. ويومذاك، كان فيها الجيش السوري لا الجيش اللبناني. فمشكلتكم ليست معنا. أظهِروا الوثائق التي تعترف بلبنانية المزارع، من جانب الدولة السورية، لنبحث في الأمر». 

طبعاً، لم يكن لبنان قادراً على خوض معركة ديبلوماسية أو حقوقية في مواجهة دمشق. وحلفاؤها في الداخل كانوا يمتلكون القرار كاملاً. وهؤلاء يعتمدون على ورقة المزارع في شكل أساسي لتبرير إمساكهم بالسلاح. والتخلّي عن هذه الورقة يعني تقديم هدية مجانية لكل مَن يطالبهم بنزع السلاح.

بقيت الوثائق المطلوبة من سوريا عالقة، ومعها ترسيم الحدود. وتالياً، تحتفظ إسرائيل بالذريعة لاستمرار احتلالها للمزارع، أو على الأقل للجانب اللبناني منها، الذي لا يُفترض أن يكون موضع إشكال مع أحد.

واستمرار الصمت السوري في مسألة المزارع، على رغم من عزم إسرائيل على ضمّ الجولان، يثير استغراب عدد من المرجعيات الحقوقية. فمجرد أن تبادر الحكومة السورية، اليوم، إلى الإعلان عن لبنانية المزارع من شأنه أن يحشر إسرائيل. وهذا ما يدفع إلى السؤال: لماذا لا يفعل السوريون ذلك؟

هل هناك فعلاً خلاف حدودي بينهم وبين لبنان في منطقة المزارع، لا يرون فرصة لمعالجته بسبب الاحتلال الإسرائيلي؟

أم إنّهم بكل بساطة ما زالوا يفضّلون إبقاء ورقة السلاح والمقاومة في يد «حزب الله» حتى انتهاء التسويات في الشرق الأوسط؟

أم إنهم يريدون الاحتفاظ بالمزارع ورقةً للضغط في المفاوضات النهائية على لبنان وإسرائيل على حدّ سواء؟

الاحتمالات الثلاثة واردة. لكنها جميعاً تُظهِر أنّ دمشق تتصرّف في الملف انطلاقاً من مصالحها الخاصة، على حساب لبنان. وهي تعطي أولوية للإعتبارات السياسية لا لاعتبارات تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي. 

وثمة مَن يقول أيضاً إنّ تخلّي دمشق عن مزارع شبعا، ربما يكون جزءاً من صفقة حول الجولان ككل، يحتفظ بموجبها الرئيس بشّار الأسد بالسلطة، بتغطية إقليمية ودولية. وإذا كانت دمشق تخلّت عن أرض الجولان السوري، فلماذا تسأل عن أرض لبنانية صغيرة في المزارع؟

المهم اليوم هو: ماذا يعني للبنان ضمّ الجولان، وما الاستتباعات المحتملة؟

واقعياً، وحتى إشعار آخر، تكرّست السيطرة الإسرائيلية السائدة منذ العام 1967 على الأرض والمياه هناك، أي على مزارع شبعا وكفرشوبا ومياه جبل الشيخ. وهذا كنز لا يقدّر بثمن بالنسبة إلى الاسرائيليين. وإذا لم يُثبت لبنان حقّه في المزارع، فإنّها ستكون جزءاً من الجولان المضموم إلى إسرائيل وستضيع تماماً.

ومشكلة لبنان أيضاً هي أنه بات متورِّطاً حتى العظم في النفق السوري- الإسرائيلي، وستكون المزارع ورقة ابتزاز أخرى له، من جانب كل القوى الإقليمية والدولية، للحصول منه على تنازلات في ملفات أخرى. 

وتكريس ضمّ إسرائيل للمزارع، ضمن الجولان، سيمنح «حزب الله» ذريعة لحمل السلاح، حتى في الجولان. وأساساً كان «الحزب» انتشر في مناطق عدة في الجولان، خلال الأعوام الأخيرة، قبل أن يتم الاتفاق بين روسيا وإيران على إبعاد القوات الإيرانية والحليفة 85 كيلومتراً إلى الشمال، بناءً على طلب إسرائيل. 

كما انّ أي اشتباك سوري - إسرائيلي قد يقع في الجولان، سيكون الجانب اللبناني معنياً به، بشكل أو آخر، لأنّ الأرض هناك لبنانية أيضاً. وفوق ذلك، بات لبنان جزءاً من أي تفاوض سوري - إسرائيلي حول الجولان، أو عملية ترسيم للحدود بين الطرفين. وقد يتذرع الإسرائيليون بالخلاف الحدودي بين سوريا ولبنان لتعطيل أي حلّ حول الجولان وتكريس سيطرتهم الدائمة.

ولا تبدو السلطة اللبنانية الحالية «مستعدة نفسياً» لمواجهة السوريين بالحقائق. فالهامش الذي تمتلكه أفضل بقليل من الهامش الذي تمتعت به السلطة خلال المرحلة السورية، لكنه ليس كافياً. ومن السذاجة أن يتصوّر أحد أنّ لبنان سيثير أزمة حول المزارع مع دمشق، فيما الملفات المصيرية الأخرى، وأبرزها ملف النازحين، موضع مزايدات ومناورات.

والأحرى هو السؤال: لماذا لا يوافق السوريون على ترسيم الحدود مع لبنان، كما يُفترض بين أي دولة وجارتها، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فيحدّدون مناطق انتشار الجيشين بدقة ويوفّرون على الشعبين- وخصوصاً في المناطق الحدودية- ما يعانونه من ارتباكات واشتباكات ديموغرافية وجغرافية واقتصادية واجتماعية. على الأقل، هناك تساؤلات حول مغزى التجاهل السوري للضرورات الحقوقية بين بلدين متجاورين. وفي النتيجة، سيكون لبنان قد تلقّى الضربة من إسرائيل بضمّ المزارع ضمن الجولان، ولكن سوريا تغاضت عن إغاثته، بل سهَّلت دخوله في المأزق. وأما في بيروت، فلا صوت يُسمَع في دولة المزرعة بعدما صارت دولة مَزارع.