ويضربُ اللهُُ الأمثالَ للناسِ لعلّهُمْ يتذكَّّرون
       

(سورة ابراهيم ـ 25)

 

لأنّ الناس أكثر ما يتأثرون بالأمثال والحكايات، ولأنّ المسؤولين عندنا أكثر ما يتأثرون بثقافة المال وعلم الحساب، وقلّما يقرأون علم السياسة والتاريخ والجغرافيا والآداب، فقد رأينا أن نخاطبهم اليوم على قدر ما يستوعبون من الحكايا السياسية بما فيها من عِبرة يصحُّ بها الإقتداء.

 

روى صديق لي حكاية حقيقية حصلت مع أحد أنصار أحمد بك الأسعد ويدعى حسن، وقد اشترى جزمةً من محل للأحذية في صيدا، وحين أعاد تجربتها في البيت وبدَتْ ضيّقة على قدميه، خَفَّ مسرعاً الى المحل لاستبدالها بأكبر منها، ولما رفض صاحب المحل ذلك بالرغم من معرفته بانتماء حسن الى زعامة أحمد بك، توجّه حسن غاضباً الى منزل البك مستهولاً استخفاف صاحب المحل بالبكوية الأسعدية، فطيّب البك خاطره وقال: أترك الجزمة هنا وعد إلينا غداً، ثم أرسل أحد أزلامه واشترى الجزمة الأوسع، وحين عاد حسن وكانت الجزمة مناسِبةً لقدميه قال له أحمد بك: لقد استبدل صاحب المحل الجزمة معتذراً لأنه كان يعتقد أنك من أنصار عادل بك عسيران، لا أحمد بك الأسعد.
                                                                                * * * 

حكاية الجزمة هذه، على سذاجتها تشكل براعة ذكية في المنافسة السياسية بما تجمع من الحنكة والظرف وترفع مستوى الخطاب السياسي عندنا من حقارة الحذاء الى حكمة الجزمة.

 

القائد الإلماني وأحد أثرياء صيدا

 

وما دمنا في صيدا، وفي مجال ضرب الأمثال للناس لعلّهم يتفكّرون، إلتقطتُ مقالاً من التاريخ للكاتب أديب التقي البغدادي يقول فيه: إنّ أحد أثرياء صيدا دعا قائداً من قواد الإلمان الكبار في الحرب العالمية الكبرى الى مأدبة كان فيها من الطعام ما هو فاخر ومن المآكل ما هو نادر، وكان يومها الكثير من الناس في لبنان يموتون من الجوع، فبدا القائد الإلماني متجهّم الوجه، ولما سألوه عن ذلك قال: من دواعي الألم أنني فكّرت الآن بأهل برلين فلم أسمح لنفسي بأن أتناول هذا الفاخر من الطعام الذي لا يتناول مثله الأمبراطور عندنا وأهل بلادي بسبب الضائقة الإقتصادية.
وقد أدركت الآن موت الكثيرين في بلادكم من الجوع وأنتم تأكلون مثل هذا الطعام في مثل هذه الضائقة.
                                                                             * * * 

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، واليومَ بالأمس يُذكَّر، ولأن أصحاب الموائد الغنيّة والمآكل الشهّية في بلادنا ينتفخون من أكل لحم المواشي وأكل حقوق الناس، فيما الناس يموتون من الجوع، فإن أفضل ما نقوله لهم ما قاله الفيلسوف الإلماني كارل ماركس: «إنّ الحضارة ليست سباقاً بين الذين يأكلون لحماً أكثر...»