لم يترك الجاحظ أمراً إلا وكتب عنه. كتب في عبقرية الإنسان وخصوصاً في الطبقة الأولى من هذه العبقرية، أي اللغة. وكتب في دراسة الحيوان. ووصل به الأمر إلى الجماد والنبات، باعتبار كلّ شيء تدبيراً من تدابيرِ الله في خلقه. وقال «ما أودع الله صدور صنوف سائر الحيوان من ضروب المعارف، وفطرها عليه من غريب الهدايات، وسخر حناجرها له من ضروب النغم الموزونة والأصوات الملحّنة والمخارج المشجية والأغاني المطربة. فقد يقال إن جميع أصواتها معدلة وموزونة موقعة».


تعاطف صاحبُ «البيان والتبين» و«كتاب الحيوان» مع جميع الخلق إلّا... الدّيك! إما لسبب عنده وإما لأسباب عدة في الدّيك الذي اعتبره ناقصاً، وشاذاً عن جميع الحيوانات التي تألف الإنسان ويألفها. وأنزل به هجاءً ما بعده هجاء. فهو لا يألف منزله ولا يحنُّ إليه ولا يحنّ إلى دجاجة ولا يشتاق إلى ولدهِ ولم يدرِ قطّ أن له ولداً من معاشرته للدجاجات. إنَّ هذا الطير المختال المتغطرس بعرفه الأحمر، لا يتركُ ظاهرة كبريائية إلّا ويتخذها لنفسه. وفيما تدافع الدجاجة عن بيضها وصغارها دفاعاً مستميتاً ينصرف هو إلى التشاوف والتدلل ومدّ منقاره على أرزاق سائر الفرقة.


طَرحَ الجاحظ نفسه معلماً وليس مجرد كاتبٍ من الكتّاب. ولذلك لم يطلق فكرةً إلا بعد بحثٍ طويل، وإن كانت أبحاثه قادته أحياناً إلى أخطاءٍ في القياس والاستنتاج. ولا مجال لذكر بعضها في هذا المقال، لأن ما قد جازَ للجاحظ في الكتب لا يجوزُ لنا في الصحف.


قال ابن العميد: «إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً، والأدب ثانياً». وكان يؤمن بأنَّ الوسيلة الأولى والأهم في ذلك هي الكتب، وفقاً للقول الشائع بأن «العقل المطبوع لا يبلغ غاية الكمال إلّا بمعاونة العقل المكتسب». و«إن كتب الأدب هي عقلُ غيركَ تزيدُ في عقلك». وفي هذه الناحية بدا تأثر الجاحظ بالفكر اليوناني شديد الوضوح وطالما أشادَ بآثار الإغريق وكتبهم، قائلاً «إنها التي تزيد في العقل وتشحذه وتصلحه وتهذبه وتنفي الخبث عنه، وتفيدكَ العلم وتصادق بينكَ وبين الحجة، وتعودكَ الأخذ بالثقة، وتَجلبُ الحال، وتُكسبُ المال». يقول في «البيان والتبين»، «إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالاً بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويماً للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء والعلماء البلغاء».