في العام 1972، اجترح وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، مبادرة استراتيجية مباغتة، داعياً الولايات المتحدة الأميركية للتقارب مع الصين والتعاون معها، لمواجهة الإتحاد السوفياتي.

في كتابه النظام العالمي الصادر سنة 2014، يركز كيسنجر على سقوط القطبية الأحادية، واهتزاز النظام العالمي. ويدعو إلى التقارب والشراكة مع الروس، للوصول إلى تشارك مع الصين، لإدارة النظام العالمي الجديد.

ارتكز الأميركيون مؤخراً على التقارب مع الروس لمواجهة الصين، ليس للدخول في حرب معها، بل للوصول إلى صيغة تشاركية. ما يعني أن الضغط الأميركي يهدف إلى علاقة تعاونية مع الصين وليس إلى مواجهة مفتوحة. هذه الصيغة، ستكون عبارة عن تجميع كل طرف لقواه وأوراقه، وتعزيزها على المسرح العالمي.

النفط واللاجئين

تلعب موسكو ضمن هذه الاستراتيجية على ثلاثة خطوط متنوّعة. العلاقة الممتازة مع الصين وإيران، والتعاون مع الأميركيين، على الرغم من بعض الاختلافات، والعلاقة الممتازة مع الإسرائيليين، والحرص الروسي على حماية أمن إسرائيل. هذا الدور الروسي يتجلى في الشرق الأوسط على الساحة السورية، وطموح موسكو للدخول إلى الساحة اللبنانية. عبر أدوار تستعد لتلعبها في لبنان، كانت قد بدأتها بإطلاق مبادرتها حول اللاجئين السوريين، وستعززها في ملفات مختلفة، من ترسيم الحدود إلى التنقيب عن النفط.

تمسك روسيا بأوراق عديدة في المنطقة، أبرزها الورقة السورية، التي تضعها على تماس مباشر مع مختلف دول الجوار. وهذا ما عزز وضعيتها في لبنان، ليس بمبادرة إعادة اللاجئين السوريين فقط، بل حتى في المجال النفطي، والذي قد يتطور لاحقاً في مجال ترسيم الحدود البرية والبحرية. كلام وزير الخارجية، جبران باسيل، خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، كان لافتاً، حول الرهان اللبناني على العلاقة ما بين روسيا وأميركا. إذ دعا باسيل الشركات الأميركية للمشاركة في مناقصات التلزيم النفطي إلى جانب الشركات الروسية. واعتبر باسيل أن لبنان يطمح إلى دور تشاركي أميركي روسي.

ما يشبه "التحالف المشرقي" 

هذا الطرح السياسي الذي يقدمه باسيل، ينطلق من قناعة لبنانية في هذه المرحلة، وترتكز على الدور المتقدّم لروسيا في المنطقة. خصوصاً، أن من يكون له اليد الطولى المؤثرة في سوريا، سيكون له التأثير الأكبر في لبنان. كما أن النظرة اللبنانية تخلص إلى أن العلاقات الروسية الأميركية سترتقي نحو التنسيق مستقبلاً، ولن تكون محطّ مواجهة كما كان في السابق. وهذا ما يراهن عليه لبنان لتعزيز وضعه. فجاء كلام عون بأن لبنان هو "قلب الغرب الجاف، وعقل الشرق العاطفي"، متماهياً مع كلام قاله باسيل سابقاً، خلال إحدى زياراته إلى موسكو، معتبراً أنه لا بد من "تحالف مشرقي" برعاية روسية.

في هذا الإطار يمكن وضع زيارة الرئيس ميشال عون إلى روسيا، والتي يحمل فيها العديد من الملفات، على رأسها ملفي النفط واللاجئين. يستخدم رئيس الجمهورية ميشال عون كل أوراقه. فهو مثلاً يستعيض عن زيارته إلى سوريا بزيارة إلى روسيا. وهو الذي يؤكد دوماً أن الوضع في الشرق الأوسط أصبح رهينة للعلاقات الأميركية الروسية. لبنان، في الشق العسكري، لا يمكنه الحصول على سلاح روسي. لكن، ما يريده الروس هو إبقاء لبنان كساحة من ساحات عملهم. كما أن عون يوجه رسالة بأنه قادر على الذهاب باتجاه آخر غير وجهة الأميركيين.

زيارة "عائلية" 

يذهب عون إلى روسيا بوفد مصغّر، يضم باسيل ومستشارته ميراي عون ومستشاره للشؤون الروسية النائب السابق، أمل أبو زيد. ما يعني أنه يريد أن يطْبع الزيارة، والعلاقة التي ستنجم عنها وتتعزز بفعلها، بطابع عائلي. ومن هنا تكتسب الزيارة بعضاً من أهميتها، على الرغم من اليقين اللبناني، كما الروسي، حيال الإمكانيات المحدودة للروس في العديد من الملفات، خصوصاً في ملف اللاجئين السوريين وسبل إعادتهم. إذ تريد موسكو تحقيق عودة اللاجئين، لكنها تفتقد للقدرة المالية لتحقيق ذلك، فالأموال اللازمة لذلك هي في عهدة دول الخليج وأميركا وأوروبا، ولا يمكن دفع هذه الأموال، من دون توافق دولي لحل سياسي في سوريا.

البعد الأساسي للزيارة، في طموحات عون وباسيل، ترتكز على تعزيز علاقات باسيل الشخصية بالدولة الروسية وقياداتها من الآن، تحضيراً للمستقبل، الذي يبدو فيها الدور الروسي فاعلاً أكثر. هذا، إلى جانب حرص باسيل على تحسين علاقاته الأميركية، ليس لحلّ ملف النفط وترسيم الحدود، عبر اقتراحه اللجوء إلى جهة تحكيمية محايدة لإنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية والتوافق عليها، بعد رفض لبنان لمقترح هوف، بل أيضاً من خلال رهان باسيل على تحقيق ظروف دولية وإقليمية قائمة على الشراكة الروسية الأميركية، تعبدّ الطريق أمام تحقيق حلمه الرئاسي مستقبلاً.