حتّم الشعر الحديث باثنين: شوقي ابي شقرا وانسي الحاج، إلّا أنّ عربدة الكتابة والتأليف بهذا النوع من الشعر ما زالت طافية، وتكسّر أمواجه على الضفاف نظراً لسهولة الرصف والتحرّر من قيود فرضها موسيقي ساحر ورائع اسمه أبو خليل الفراهيدي.

والملامة قد تغري لكي اسارع الى القول إنّ تجربة أوروبا مع الشعر الحديث تختلف كليّاً عن تجربتنا، اذ هناك في أوروبا وزنان للشعر بينما في العربية 16 وزناً، ما عدا الجوازات التي تُعدّ بالعشرات.

ومع ذلك، فالاحتكاك بالجمهور الاوروبي من روسيا حتى البرتغال يقنعك ان هذا الجمهور ما زال يفضّل الكلاسيكيين على منتجي حركة الشعر الحديث الذي قال عنهما اللبناني الشاعر العاملي عبد اللطيف الزين:

تحدثني ولا أفهم عليها
كأن حديثها الشعر الحديث.

أمّا بنعمة ربك فحدّث، ففي فترة صعود الشعر العربي كان الصحابة والولاة والعرب الاقحاح قد شكّلوا طبقة مميّزة عن الموالي (عامة الشعب) من الدم والقيان والجواري على الصعيد الاجتماعي، وحصل هذا منذ خلافة عثمان حيث بنى داره بالمدينة مستخدماً رخام الأكاسرة، وحسب المسعودي فان يزيد بن عبد الملك «كان يلبس حلّة قوّمت بألف دينار».

لم يكن من مكانة للصحراء في تنوّع وتشرذم الشعر العربي، اذ عدّت الحجاز وبغداد والبصرة والشام مكان غناء ولهو ومجون وعلاقات جنسية أوضح من أيامنا، فلا يقال إنّ الأيام تطوّرت وتحدّثت وشعرنا الحديث يستجيب لحركة هذه المرحلة.

عندما توغّلت حركة الشعر الحديث في الخمسينات، ركب انسي الحاج ناقة النابغة واعتلى شوقي حصان امرئ القيس، وقد قلت له مرة: افضل مجموعاتك هي «أكياس الفقراء» لم لا تثابر على هذا التدفّق الشعري مع تنويعه؟ وجرت بيني وبينه أحاديث مطوّلة عن مصادر هذا الشعر، هل هي من الشاعرة – الموسيقية نازك الملائكة، أم رأساّ من الغرب أم من مجموعة أمين الريحاني «زنبقة الغور» (1911) وهو لم يذكره النقّاد كشاعر.

 
 

في إحدى الجلسات مع شوقي سألته: «لما هذه الضبابية في العلاقة مع أنسي كأنكما جرير والفرزدق»؟، فاجاب: «أنا احترم شاعرية أنسي، لكن إنتظر.

وانتظرت للحظات ذهب خلالها شوقي ثم عاد حاملاً كتابين وقال: «اقرأ والمجموعة لأنسي: فقرأت اهداء: «الى أولاد شوقي علّهم يقرأون» وفي الثانية: «الى أولاد شوقي».

وللشعراء قديما وجديداً مداخل ومخارج في استمنائهم. ربما يكون أنسي أكثر وهجاً، ولوناً، وصهبائية هوى من شوقي، لكن الأخير أكثر عائلية وجوى من أنسي.

ومن الاطلاع على نسبة كبيرة من الشعر الحديث، اعتقد ان هؤلاء الشعراء يجهلون الوزن الفراهيدي لان حركتهم جعلت المئات مقاتلين بأقلام خلّب. فمنذ العهود الاولى (حوالى 1650 سنة) كانت مدن عربية مثل مكّة والمدينة وبغداد ودمشق تفور بالحياة الجنسية، والتجارية والحضارية أكثر من أيامنا التكنولوجية الراهنة، ومع ذلك لم ينقل لنا الشعر كل ما كان يجري وقتها من انحرافات وممارسة الاستمناء مع «المومسات المقدسات» او «بغايا المعابد».

كل ذلك لم يتجسّد في الشعر القديم (باستثناء عمر بن ابي ربيعة) تماماً كما اليوم، اذ ينزوي الشعر الحديث حتى مع اروع خصوباته التعبيرية وعندها نتساءل: «لمن انتِجَ هذا الشعر؟».

وصل أنسي الى جمهوره وهو جد خصوصي وقليل، من خلال الصحافة ومجموعته «لن» التي كتبها عام 1957 (وهو في العشرين) وطبعت عام 1960.

وشوقي أبي شقرا، صحافي مفرط في الذكاء امضى 32 عاماً في «النهار» اوصلها الى آخر قرية لبنانية وجرى الاستغناء عنه، وكانت صحافيته المع وابرز من شعره المركون بالحنين الى والده المائت في حادث سيارة «ونمرة صباطه 47»، أي كان طويلاً وبيده بارودة بينما شوقي طويل مثله وبيده قلم أحمر للتصحيح.

شاعران لبنانيان بفارق عمر لا يذكر، مميزان في حركة الشعر الحديث العربية، وقد بدآ نجوميتهما في مجلة «شعر» و«ندوة الخميس» عن الشاعر السوري يوسف الخال واختلفا، وتناقدا، وتناقرا بصمت من دون الشعب. 

 

 وضّاح يوسف الحلو