في أحد مشاهد "وثائقي حرب لبنان"، تبرز صور في العام 1977، لرئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط وشيخ عقل الموحدين الدروز آنذاك محمد أبو شقرا، يجولان في قرى الشوف لوقف سفك الدماء بين الدروز الغاضبين والمنتفضين، بسبب اغتيال كمال جنبلاط، والمسيحيين في الجبل. الكثير من التعتيم والتحوير طبع ذاك اليوم. التوصيفات البسيطة التي يطلقها أهل القرى لا سيما منهم المسيحيين، هي التي أصبحت نموذجاً معمماً، ويؤخذ بها في الذاكرة السياسية والتاريخية، لكن من دون الاستناد إلى حقائق ووقائع، أو وضع ما حدث في سياق سياسي آنذاك، أي مناخات الحرب الأهلية. فكانت تختصر جملة بسيطة تلك الأحداث وفق مرويات أهل القرى، بأن "السوريين قتلوا كمال جنبلاط، فذهب الدروز للإنتقام من المسيحيين". ويذهب البعض إلى إتهام وليد جنبلاط بذلك.


الدور السوري
كل هذا يبقى خرافات سائدة، لا سيما عندما يتم التعاطي معه بعاطفية شعبية. الحدث الجلل الذي وقع في جبل لبنان يومها، كانت غايته تسعير الحرب الأهلية. يومها كان الانقسام اللبناني واضحاً، قوى اليسار وعلى رأسها كمال جنبلاط، المعارض للدخول السوري الى لبنان، بمواجهة قوى اليمين والتي تتمثل بالأحزاب المسيحية آنذاك، والتي استنجدت بالنظام السوري لضرب جنبلاط والحركة الوطنية، ولجم منظمة التحرير الفلسطينية.

وبالعودة إلى الأبعاد التاريخية، واستناداً إلى الأحداث، تكشّفت في أكثر من محطّة نقاط التقاء النظام السوري مع التوجهات الأميركية والإسرائيلية في تلك الفترة: احتواء اليسار والسيطرة على المنظمات الفلسطينية. وظل هذا الالتقاء منذ التفاهم الشهير مع كيسنجر وحتى ترتيب الوصاية ما بعد الطائف. لقد كان الأسد يريد الهيمنة على لبنان، كشرط ضروري لاستقرار نظامه في داخل سوريا. فلا النظام السياسي اللبناني بحرياته السياسية والاقتصادية يناسبه، ولا المد اليساري والثوري الفلسطيني بشعارات التحرر يوائمه. كلاهما قابلان للعدوى داخل سوريا. هذا هو كابوس الأسد آنذاك. 

صفحة الماضي
بالعودة إلى يوم اغتيال جنبلاط، فإن النظام السوري أراد خلق الفتنة بين الدروز والمسيحيين، فقد بينت كل التحقيقات التي أجريت وأنجزت في تلك الجريمة، تشير إلى أن مخطط فريق الاغتيال كان يتركز على قتل كمال جنبلاط في كمين، ومن ثم سحب الضحايا والموكب إلى منطقة مسيحية، بهدف تحريض الدروز على المسيحيين كمنفذين للاغتيال، وإشعال الفتنة في الجبل، تمتد منه إلى كل لبنان. لم يستطع فريق الإغتيال تحقيق ما رمى إليه، لكن الفتنة تحققت، ووقعت مجازر بحق المسيحيين في الجبل. يومها جال جنبلاط في كل قرى الشوف، في محاولة منه لوقف النزيف.

على الرغم من حرب السنتين، بل وعلى الرغم من تداعيات اغتيال كمال جنبلاط، لم يتهجّر المسيحيون من الجبل. صحيح أن الضغائن المترتبة على تلك الأحداث لم تتبدد، بل واستدعت أيضاً ما وقع قبل قرن من الزمن 1860، إلا أن نار الفتنة وضعت تحت الرماد، إلى أن عادت واشتعلت في حرب الجبل بفعل العامل الإسرائيلي بعد اجتياح لبنان، وبفعل رعونة الاستقواء بهذا العامل من قبل الميليشيات المسيحية حينها. كانت حرباً أكبر بكثير من لبنان وجماعاته الأهلية، وارتبطت بالاتحاد السوفياتي وبحلف شمال الأطلسي، كما ارتبطت باختلال التوازن الإسرائيلي - السوري الذي كان قائماً، علاوة عن انكسار العلاقات بين الطوائف اللبنانية.

أدت "حرب الجبل" إلى تهجير المسيحيين على وقع المجازر المروعة. لكن، سرعان ما أدرك الدروز قبل غيرهم، أن جبلاً بلا مسيحييه هو "جبل ناقص" ومهدود. فما أن خمدت لغة الحرب بسنوات قليلة، حتى أسرع جنبلاط إلى الإلحاح على استخدام لغة السلام والمصالحة. كان يريد تجاوز صفحة الماضي، لأن تجربة الثمانينات أدت إلى إعلاء فكرة السلم أولاً وإلى تثمين "التجربة اللبنانية" واستقلاليتها، تخلصاً من الاحتلال الإسرائيلي ومن الاحتلال السوري معاً. وعلى هذه القناعة، كان إنجاز مصالحة الجبل عام 2000، برعاية البطريرك مار نصر الله بطرس صفير.

القداس والموعد
هذه اللحظة استذكرها جنبلاط في قداس سيدة التلة في دير القمر، معتبراً أن المصالحة حصلت بينما لم يكن مشاركاً فيها العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، لكنها استكملت معهما فيما بعد.

كان لدى جنبلاط همّ أساسي في طي صفحة الماضي، وإنجاز المصالحة، وهذا ما كرّسه مع القوات اللبنانية، لكنه لم يتكرّس مع التيار الوطني الحرّ، الذي تضاربت مواقفه وفق اللحظة السياسية. فيوم زار عون الشوف والمختارة، قبل سنوات، وتجول مع جنبلاط في سيارة واحدة في قرى الشوف، أكد يومها على إنجاز المصالحة. ما لبثت تلك اللهجة أن تغيرت وتصاعدت باتهام جنبلاط بهدم الكنائس وسرقة أجراسها، ما أكد أن المصالحة مع جنبلاط تخضع بخفة للحسابات السياسية العابرة. وقبل أشهر خلال جولة انتخابية لباسيل في الجبل وإشارته إلى أن العودة السياسية والحقيقة لم تتحقق، مطلقاً مواقف تصعيدية، ثمة من انتقده على مسّه بالمصالحة، فكان ردّه بأن المصالحة لا تعنيه لأنه لم يكن شريكاً فيها. كانت اللحظة انتخابية، ولكنه عاد واعترف بالمصالحة فيما بعد، وعمل على تكريسها من خلال القداس الذي تمت الدعوة إليه في دير القمر تحت عنوان توبة ومغفرة.

كانت غاية التيار الوطني الحرّ من هذا القداس، تأكيد الفاعلية القوية له في الشوف، والسعي إلى إظهار انتصار منطقه في توصيف الواقع. وهذا يتأكد في الفارق ما بين خطاب جنبلاط في المناسبة وخطاب باسيل. بداية كان التيار الوطني الحرّ يريد لهذا الإحتفال أن يكون في ذكرى السادس عشر من آذار، والغاية من هذا التاريخ معروفة، تهدف إلى قطع الطريق على ذكرى كمال جنبلاط، التي تحييها المختارة سنوياً، فاقترح التيار على جنبلاط إلغاء ذكرى المختارة والمشاركة في اليوم نفسه بقداس دير القمر.

لو حدث ذلك، لكن جنبلاط خسر الكثير من رمزية الذكرى، وظهر وكأنه تخلّى عن القضية وسلّم للتيار بصحّة اتهاماته. كان التيار يريد سحب رصيد معنوي أساسي من جنبلاط، واستدراجه إلى خانة المخطئ الذي يطالب بالتوبة والمغفرة. وهذا أسلوب غالباً ما يعتمده التيار الوطني الحرّ مع خصومه السياسيين. بينما جنبلاط الذي رفض ذلك، ويريد تعزيز المصالحة في الجبل ومنع الانقسام، تقدّم بمبادرة، أن يبقي على ذكرى 16 آذار لما تمثّل، مقابل أن يتم تأجيل قداس دير القمر إلى الأسبوع الذي يليه. وبذلك، تحفظ كرامة الجميع ويتجنّب الجبل أي فتنة أو حالة توتر.

أفخاخ باسيل
نجح جنبلاط في الإبقاء على المناسبتين، وإبعاد شبح التوتر، الذي يرى أنه يهدد بشكل مستمر الوضع العام في الجبل، سواء عند أي سجال سياسي بينه وبين التيار الوطني الحرّ، أو من خلال محاولات خلق فتنة درزية درزية. حاول التيار حشر جنبلاط بمسعى آخر، يتعلّق في وضعه تحت الأمر الواقع في قداس دير القمر، لترتيب "مصالحة" مع النائب طلال ارسلان. لكنّه أيضاً نجح في عدم حصول ذلك، ما دفع إرسلان إلى عدم المشاركة، وبالتالي قطع جنبلاط الطريق على إرسلان للمشاركة في ذلك القداس، والذي كان هناك مسعى لإظهاره كقطب درزي ثانٍ شريك في المصالحة. وهذا ما دفع إرسلان قبل أيام من مقاطعته للقداس إلى القول إن أي مصالحة مع جنبلاط غير مطروحة إلا في حضرة ورعاية رئيس الجمهورية. قال ارسلان ذلك، بعد فشل مسعى جلوسه إلى جانب جنبلاط في القداس.

نجح جنبلاط في ما يريد، كما نجح التيار الوطني الحرّ في جعل نفسه شريكاً أساسياً وفاعلاً في الشوف، وفي تكريس المصالحة. ولكن بينما حقق جنبلاط ما يريد سياسياً وشعبياً، اتسم خطابه في المناسبة بالتركيز على الهدوء، وطي صفحة الحرب، وعدم الاستمرار في نكئ الجراح، لأن الجميع كان مشاركاً في تلك الحرب، ولا يمكن تبرئة أحد. فعزز مضمون كلامه التصالحي، واعتبر أنه منذ اغتيال كمال جنبلاط مرّت البلاد بحروب وجولات وهدن، ما يعني أنه حان الوقت للإقلاع عنها. بينما حاول باسيل في خطابه إعادة الاعتبار لكلامه السياسي، بأن العودة الحقيقية السياسية لم تتحقق إلا بعد الانتخابات الأخيرة. ما يعني أن التيار هو الذي حقق هذه العودة، ويسعى إلى تحقيق العودة الاقتصادية. وقد أطلق باسيل كلمة لافتة حول التوبة والمغفرة، باعتبار أن المغفرة تمنح لطالب التوبة. وهي تظهر أن ما كان يرمي إليه من طلب إلغاء ذكرى 16 آذار في المختارة، يهدف إلى وضع جنبلاط في خانة طالب التوبة، وأنه بحاجة إلى ابتياع صكوك الغفران من باسيل وهذا لم يحدث.