وصل وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو إلى بيروت حاملاً معه حزمة مطالب مستحيلة من الحكومة اللبنانية، والاستحالة هنا صنعها هو وحلفاؤه العرب عندما انكفأوا خلال السنوات الفائتة عن لبنان، تاركين خصوم حزب الله اللبنانيين في العراء، فكان أن ملأ الحزب هذا الفراغ. فاز في الانتخابات النيابية هو وحلفاؤه، و”انتصر” في سوريا هو وحلفاء آخرون. فرض رئيساً للجمهورية، وشكّل حكومة له فيها اليد الطولى. أمسك بالاقتصاد وبالمرافىء العامة وبالمطار، وأقام لنفسه ترسانة حماية سياسية وأمنية واقتصادية.

والحزب في تصدّره لم يكن احتلالياً هذه المرّة، إنّما كان يترجم نتائج الانتخابات البرلمانية التي فاز فيها دون غيره من القوى، وفي الانتخابات الرئاسية التي ثبت فيها الرئيس ميشال عون في بعبدا، وكرّس صهره جبران باسيل وزيراً للخارجية. جرى كل هذا بغياب متعمّد للأميركيين، وبانكفاء حلفاء أميركا في الخليج عن دعم حلفائهم اللبنانيين. سعد الحريري خاض الانتخابات وكان خارجاً لتوه من السجن السعودي، وماكينته الانتخابية كانت مفلسة، ما أتاح للحزب تشكيل كتلة نواب سنية وازنة فرضت تمثيلاً في الحكومة.

وسط هذا التصدّر، وهذه الخيبة، سقط مايك بومبيو على رؤوس اللبنانيين وطلب منهم الابتعاد عن حزب الله، وهو ما يعني وفق هذا المشهد الابتعاد عن أنفسهم، فالحزب اليوم هو لبنان، وهذه الحقيقة غير ناجمة عن وضع احتلالي، على نحو ما جرى في ٧ أيار 2008، عندما احتل الحزب بيروت، وعاقبه اللبنانيون وخسر بعدها الانتخابات. هذه المرّة الحزب هو لبنان لأنه فاز في الانتخابات النيابية، ولأن خصومه خسروا هذه الانتخابات. وهو لبنان لأن حلفاءه في سوريا وفي العراق يتصدّرون أيضاً، ولأن أميركا انكفأت ولأن الخليج تعامل مع “١٤ آذار” على نحو مذل.

وصل بومبيو إلى بيروت قادماً من تل أبيب، بعد أن قدّم هديّتين واحدة لبنيامين نتانياهو وأخرى لبشار الأسد. وصل إلى بيروت بعد أن اعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان. والسيد بومبيو في هذه اللحظة يريد من اللبنانيين الانضمام إلى نظام العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على حزب الله. التقى المسؤولين اللبنانيين، وقال زوراً أن الحزب يهيمن على نحو غير شرعي على القرار اللبناني بغير وجه حق. علماً أن حزب الله هذه المرّة يهيمن على كل شيء في لبنان، إلا أن هيمنته هذه هي امتداد لمسار انتخابي ولتصدّر إقليمي، وهو اليوم القوة الوحيدة التي احتفظت بطاقةٍ على التصدّر. وبومبيو نفسه شحن هذه القوة بمزيد من الطاقة، عبر هديّته المذهلة لنتانياهو.

اللبنانيون فقدوا الحيلة والقدرة على الإتيان بشيء في ظل صراع الأقوياء من حولهم. مشهد وزير الخارجية الأميركي في صالونات الرؤساء يكشف حجم العجز. عند رئيس الجمهورية الذي اختاره حزب الله رئيساً، وعند رئيس المجلس النيابي شريك الحزب في الطائفة وفي النفوذ، وعند وزير الخارجية صهر الرئيس وحارس الأمانة التي وضعها الحزب في بعبدا. أما الصالون الرابع، أي السراي الحكومي، فيقيم فيه رجل ما كان ليصير رئيساً للحكومة لولا سماح الحزب له، والرجل في فاقة كبرى، ومحاصر من قاعدته ومن حلفائه قبل خصومه. هؤلاء يريد بومبيو منهم أن يقفوا في وجه حزب الله! يريد من حزب الله أن يقف في وجه حزب الله.

هذا النصاب السياسي الذي يحمي حزب الله تولى الحزب تقميشه وفق قواعد اللعبة اللبنانية. لقد خاض سعد الحريري الانتخابات وكان لتوه خارجاً من الاحتجاز في الرياض. في حينها كان حزب الله يتقدم في سوريا، فخسر الأول الانتخابات وربح الثاني لبنان. هذين المشهدين لم ينعقدا لأن اللبنانيين يحبون حزب الله، بل لأن الأميركيين انكفأوا ولأن الخليج تصرف على نحو أرعن، ولأن ايران تؤمن بحلفائها، فيما الآخرون أذلوا حلفاءهم!

ثم كيف لنا أن نكون جزءاً من منظومة العقوبات على حزب لا نريد سلاحه ونحن بعيدون عن أفكاره وخياراته، لكن صاحب العقوبات وصل إلى بيروت من تل أبيب بعد أن قدّم لها تلك الهدية الكبرى. الانضمام إلى العقوبات يعني أيضاً قبولاً بتلك الهدية. واشنطن لم تكن يوماً نزقة وغير آبهة بشيء كما هي اليوم. وهي نزقة في كل المشرق. عمان حليفتها التاريخية تعاملها بنفس الفظاظة. تريد نزع السلطة الهاشمية عن المسجد الأقصى، وتريد من عمان أن تنضم إلى “صفقة القرن” على نحو ما فعلت دول الخليج، وهذه خطوة إذا ما قامت بها المملكة ستهز استقرارها. ومثلما لم يعد استقرار لبنان جزءاً من حسابات واشنطن، يبدو أن استقرار المملكة أيضاً لم يعد جزءاً من حساباتها. في سوريا أيضاً ليس حال حلفاء واشنطن أحسن. الأكراد سيُتركون لقمة سائغة للأتراك والروس والإيرانيين. الأكراد حلفاء واشنطن الميدانيين ينتظرون مصيراً يفوق في تراجيديته مصير سعد الحريري ومصير الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى. واشنطن على وشك الانسحاب من مناطقهم.

حزب الله لم ينتصر في لبنان لأن خصومه ضعفاء. انتصر لأنه كان القوة الوحيدة التي تملك طاقة على التصدر. ولأن خصومه تُركوا لوحدهم في مواجهة قوة إقليمية هائلة اسمها ايران. وهؤلاء الخصوم حين أتيحت لهم فرصة مواجهته انتصروا عليه في انتخابات العام ٢٠٠٩ وأعاقوا في حينها وصول مرشحه إلى كرسي الرئاسة. هذا الوزير القادم من تل أبيب فعلاً جائر ومتغطرس، ويريد من ضعفاء مثلنا أن نكون وقوداً في حرب سبق أن خسرناها، وسبق أن خَذَلنا هو نفسه في أثنائها.

بومبيو لم يجد من يولم له في بيروت إلا النائب ميشال معوض، وهذا الأخير ما كان له أن يصير نائباً لولا انضمامه إلى لوائح حليف الحزب، أي الرئيس ميشال عون. أينما وليت وجهك في بيروت ستجد أثراً للحزب، وأي محاولة للتمييز بين العقوبات على الحزب والعقوبات على لبنان ستُمنى بالفشل. بومبيو عجز عن تناول العشاء بعيداً عن حزب الله، فكيف لنا نحن أن نتجنب ما لم يستطع هو تجنبه. إذا ما فعلنا ذلك يا أيها الرجل القادم من تل أبيب سننام من دون عشاء، وهذا ما لم تفعله جنابك!