الإعلان عن القضاء على داعش لا يعني نهاية الحرب في سوريا، بل هو بداية تصدّعات أخرى، من ضمنها قضية الأكراد، التي قد تتطور إلى صراع مسلح آخر
 
يشرع القضاء على تنظيم داعش في الباغوز الأبواب أمام نقاش صاخب حول مصير الأكراد المنتمين إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، والمنضوين داخل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والذين يشكّلون حالة نافرة تتناقض حولها مصالح الأطراف المتنازعة في سوريا.
 
وحققت قوات سوريا الديمقراطية تقدّما داخل آخر جيب لتنظيم داعش في بلدة الباغوز في شرق سوريا، محاصرة مقاتليه الرافضين للاستسلام في بقعة صغيرة قرب نهر الفرات، وفق ما أعلن متحدث باسمها الثلاثاء.
 
وقال مدير المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية مصطفى بالي في تغريدة إن قواته “سيطرت على مخيم داعش في الباغوز”، لكنه أوضح في الوقت ذاته أن ذلك “ليس إعلانا للنصر ولكن تقدّما هاما في القتال ضد داعش”.
 
ولم تنتشر قوات سوريا الديمقراطية داخل المخيم بعد، وهو عبارة عن خيم عشوائية بينها العشرات من السيارات والشاحنات الصغيرة المتوقفة وبعضها محترق، عند أطراف بلدة الباغوز. لكنها تمكّنت من تطويق مقاتلي التنظيم الذين لم يستسلموا، وحشرهم في مساحة محدودة على ضفة نهر الفرات المحاذي للبلدة.
 
وتشكّل قوات سوريا الديمقراطية، المؤلفة من فصائل عربية وكردية رأس حربة في المعركة ضد تنظيم داعش في سوريا، بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركية. وخصصت الولايات المتحدة في ميزانية عام 2020 مبلغ 173 مليون دولار لدعم جهود حلفائها في سوريا تحت بند التدريب ودعم الأسلحة، منها 38 مليون دعم لوجستي، و48 مليون لإصلاح البنى التحتية، و32 مليون لتلبية الاحتياجات اللازمة للعمليات العسكرية، و10 ملايين لشراء ذخيرة. وبقية المبلغ ستخصص لشراء ناقلات الأفراد غير التكتيكية، والمدرعات، فضلا عن الجرافات والرافعات والحفارات. ويعكس الإعلان عن هذه الميزانية خططا أميركية لعدم التخلي عن الحليف الكردي على نحو يبدد مخاوف الأكراد من قرار الرئيس الأميركي سحب القوات الأميركية من سوريا.

حالة خاصة

يعتبر الأكراد في سوريا حالة خاصة ومستقلة عن طبيعة الصراع بين النظام والمعارضة. ولا شك أنهم فرضوا أمرا واقعا سيشكل مادة سجال كبرى في الداخل السوري، كما لدى عواصم القرار المعنية بالشأن السوري.

ويشكّل الأكراد نحو 15 في المئة من إجمالي السكان. وتعد قوات سوريا الديمقراطية ثاني قوى عسكرية على الأرض بعد الجيش السوري، إذ تسيطر على نحو 30 في المئة من مساحة البلاد، تتضمّن أبرز حقول الغاز والنفط وأراض زراعية وثروات مائية.

قبل الحرب لم يكن للأكراد وزن يُذكر مقارنة بجيرانهم في العراق أو حتى في تركيا. لكن بعد عقود من التهميش، تصاعد نفوذهم تدريجيا مع انسحاب قوات النظام تدريجيا من مناطقهم بدءا من العام 2012. وفي العام اللاحق، أعلنوا في العام 2013 إقامة إدارة ذاتية في مناطق سيطرتهم، وأعادوا إحياء لغتهم وتراثهم وبنوا مؤسسات تعليمية وأمنية.

وتضغط روسيا على الأكراد لمباشرة مفاوضات مع النظام السوري بغية الاتفاق على ترتيبات من شأنها إعادة سيطرة نظام دمشق على الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد، لاسيما شرق الفرات. لكن، المواقف الأخيرة، كشفت أن هناك تغييرات مقلقة، وبدا أن موسكو تبدو غير مرتاحة لإرهاصات وجود تحالف إقليمي قيد التشكل بين إيران والعراق وسوريا، وأنها قد لا تدعم ضغوطا تمارسها دمشق على الأكراد بالاستناد على المقاربة التي شكلها اجتماع رؤساء أركان جيوش البلدان الثلاثة في دمشق.

وقد بدأت ملامح الصراع مع الأكراد تظهر بشكل واضح مؤخرا بعد أن وجّهت دمشق تهديدات كشفت من خلالها عن خطط للسيطرة على كافة المناطق التي يهيمن عليها الأكراد، وعن نيتها إخضاع كافة الأراضي التي حررها الأكراد من تنظيم داعش لسلطة دمشق. ونددت الإدارة الذاتية الكردية بـ”لغة التهديد” التي تضمنتها تصريحات وزير الدفاع السوري علي عبدالله أيوب، لناحية تأكيده عزم دمشق استعادة مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عبر “المصالحات” أو “القوة” العسكرية.

وأورد مكتب الدفاع في الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا في بيان أن “استخدام لغة التهديد ضد قوات سوريا الديمقراطية التي قامت بتحرير وحماية كل شمال وشرق سوريا من القوى الإرهابية يخدم فقط القوى التي تعمل على تقسيم وحدة سوريا”. وأفاد أن تصريحات أيوب “تؤكد أن النظام يصر على إنتاج نفسه من خلال الحسم العسكري والأمني، خلافاً لما نهدف إليه في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في تحقيق الأمن والاستقرار عن طريق تسوية سياسية شاملة”.

ويرى المراقبون أن تصريحات وزير الدفاع السوري جاءت مستقوية بالاجتماع الذي جرى في دمشق، الاثنين، بين قادة أركان جيش سوريا والعراق وإيران والذي اعتبر بمثابة نواة لتشكيل محور عسكري ثلاثي تقوده طهران. واعتبرت الإدارة الذاتية في بيانها أن هذه التصريحات تدل على “إصرار” الحكومة السورية على “سياسة القمع″، وأكدت أنها “مع خيار الحل السياسي المبدئي ولكن لن نتهاون في الدفاع المشروع عن حقوقنا”.

الدور التركي
يزداد وضع الأكراد والحديث عن مستقبلهم تعقيدا بالنظر إلى الموقف التركي، حيث يشكّل الأكراد مادة خلاف بين واشنطن وأنقرة. ففيما تهدد أنقرة بعملية عسكرية كبرى لاجتثاث “الإرهابيين” الذين يهددون حدود تركيا حسب الرواية الرسمية التركية، تحذر واشنطن من أي عمليات عسكرية تمسّ القوات الكردية وتعتبرها حليفة في المعركة ضد الإرهاب.

وتشكّل قضية التعامل مع الأكراد في سوريا مادة خصبة يستخدمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حملة الانتخابات البلدية التي ستجري في تركيا في 31 من الشهر الجاري. وتعتبر تركيا أن حزب الاتحاد الديمقراطي (ب.ي.د) في سوريا هو “حزب إرهابي” وهو الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني في تركيا ( بي.كا.كا) والمصنّف إرهابيا في تركيا كما على لوائح الإرهاب الدولية. وبررت تركيا تدخلها العسكري في شمال سوريا في يناير 2018 لحماية الحدود الجنوبية التركية من الإرهاب.

وتخشى تركيا من أن يقيم الأكراد كيانا مستقلا شمال سوريا يكون متصلا بالأكراد في تركيا، ويعزز الميول الانفصالية التي لطالما دافع عنها حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان. وقال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن حدود بلاده الجنوبية كانت ستخضع بالكامل “لاحتلال الإرهابيين” لولا عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” اللتين قادتهما تركيا في شمال سوريا.

وفيما يحاول أردوغان أن يجعل من مكافحة الأكراد عملية إقليمية لا تخص بلاده فقط بل إيران أيضا، لا يبدو أن طهران جاهزة لدعم أنقرة في هذا الصدد أو إعطاء أي مصداقية لمزاعم أردوغان حول تنسيق تركي إيراني ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني.

ويقول محللون إن إيران تنظر بعين القلق إلى التدخل التركي في سوريا تحت عنوان محاربة الإرهابيين الأكراد، وإنها لا تريد أن تبرر لأنقرة هذا التدخل من خلال مشاركتها مع الأتراك في عمليات ضد أكراد حزب العمال الكردستاني (بي.كا.كا). وقالت وكالة أنباء فارس إن إيران نفت تصريحات لوزير الداخلية التركي قال فيها إن طهران وأنقرة نفّذتا، الاثنين، عملية مشتركة ضد مسلّحين من حزب العمال الكردستاني. وقال مصدر في القوات المسلحة الإيرانية للوكالة “الجيش التركي نفّذ العملية ضد جماعة حزب العمال الكردستاني المسلحة، ولكن القوات المسلحة الإيرانية لم تكن جزءا من هذه العملية”.

في ظل هذا الجدل متعدّد الأضلاع والتوجهات والمصالح، لا يبدو أن الإعلان عن القضاء على تنظيم داعش يعني نهاية الحرب في سوريا، بل هو بداية لأزمات وتصدّعات أخرى، من ضمنها قضية الأكراد، التي قد تتطور إلى صراع مسلح آخر تشهده المنطقة، ولن يكون تنظيم داعش بمعزل عنه، في ظل قدرته على تحريك خلايا نائمة في المناطق الخارجة عن سيطرته واستمرار وجوده في البادية السورية مترامية الأطراف؛ فهذا التنظيم الذي لطالما تم تحريكه لصالح أجندات لم تكن دمشق بعيدة عنها قد يتم استخدامه في المستقبل لترويض الحالة الكردية وفق ما تتطلبه التسويات.