ما كُنّا كلبنانيين بحاجة لـ"طفرة الأمطار" لنكتشف بأن لبنان بلد غير قابل للعيش، وأن طرقاته نُفِذت على مبدأ "خزّق ولزّق"، الأمر الذي ظهر جلياً في الأيام الماضية، بدءً من الانهيار الذي ضرب طريق ضهر البيدر قبل أسبوع، وصولاً إلى المشهد المرعب الذي أطلّ علينا مساء أمس الأول من طريق ترشيش زحلة، مروراً بانهيار ثانٍ في اليوم نفسه شهده طريق رمحالا - جسر القاضي، والذي سبقه انهيار على مفرق الشوف نفسها.

في الأخبار المتداولة حول الموضوع، ترى بياناتٍ أمنية من هنا، تحذيرات مرورية من هناك، عدا عن تراشق كرة المسؤولية، وسهام الفساد، و"نشر غسيل التلزيمات الوسخ" على وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي... لكن لا ترى تفسيراً منطقياً يضع إصبعه على الخطأ الحقيقي والجوهري الذي يترتّب عليه مشاهد الزلزلة التي غزت يومياتنا في المرحلة السابقة.

من ينظر بتمعّن من الزاوية العلمية لما طرأ على شوارع متفرقة من لبنان يُدرك أن القصة أكبر من تلزيمات غير مطابقة للمواصفات، وأعمق من سمسرة متعهّد ووزارة، فالمشاهد دبّت الزعر في قلوب المواطنين عدا عن قطع هذه الطرقات لأيام ريثما يتم ترقيعها.

الخلل الحقيقي تبعاً لأهل الاختصاص في طبيعة الصخور التي تُنفذ عليها الطرقات، وهي الطبيعة التي تختلف من مكان لآخر، ويتأثر بعضها بالأمطار ما يؤسس لهذه المشاهد الكارثية، ويجعل من طرقات لبنان مهددة بحوادث مماثلة طيلة فترة فصل الشتاء، لا سيما المواسم التي تمتاز بوفرة المتساقطات.

يفسّر الخبير الهيدروجيولوجي سمير زعطيطي علمياً ما حصل ويحصل، وما يُتوقع استمرار حصوله في الطرقات، ويؤكد أن المعنيين من متعهدين ومهندسين ووزارة أشغال يكتفون بدراسات شكلية لقياسات الطرق المنوي تنفيذها، من طول وعرض وردم المنخفض وتمهيد المرتفع من أساسات الطريق.

لكن يفتقد هؤلاء بدراساتهم الطبوغرافية للتعرف على طبيعة الصخور التي ستحتضن هذه الطرق، وهي الصخور التي تختلف من منطقة لأخرى، وقد تختلف في المنطقة نفسها حتى، بحسب ما يؤكد زعطيطي في حديثه لـ"السياسة".

فالقشرة أو التربة ليست هي الأساس في الطرقات، بل الصخر الخاضن، وعلى سبيل المثال ترى الطريق من بيروت وصولاً للبترون لا تتعرض لمشاكل مشابهة، نظراً لأنها أسِست على صخر قاسٍ "هارد روك" بينما يختلف الوضع ما بعد البترون، فتتحول الصخور إلى نوعٍ هشّ يُخزن مياه الامطار داخله، ما يفسر الانهيار المخيف الذي ضرب طريق شكا قبل أشهر.

ويوضح زعطيطي: "هذا الصخر يُعرف بالصخر المارلي أي (صلصالي + كلسي)، وهو ابيض اللون، وهشّ وليّن، وهذه الصخور تتشبّع بالمياه في حال كانت الأمطار غزيرة، ما يؤدي إلى انتفاخ الصخر وزيادة حجمه، إذ تتفاعل الأمطار معه وتتحول إلى وحول.

هذا الصخر المتوحّل قد يصل حجمه علمياً إلى 17 مرة من حجمه الطبيعي أحياناً، علماً انه لم يصل في لبنان لأكثر من 7 مرّات زيادةً عن حجمه، الصخور القاسية ضاغطة من فوقه ومن تحته، فيكون التنفيس عبر جوانب الطريق، حيث الضغط أقل، تمشي هذه الوحول لخارج الطريق، وتحدِث فراغاً في الوسط، ما يؤدي إلى انهيار الطبقات التي تعلو الفراغ الناجم عن تسرّب الوحل، الأمر الذي يتمظهر بالشكل الذي نراه من تكسّر وتفسّخ.

فلا تراعي التعهدات هذه النظرية العلمية، لعدم وجود اختصاصيين في الوزارات المعنية، يدرسون طبيعة الصخر، أي خبراء هيدروجيولوجيين، ولا حتى التعاقد معهم لإجراء الدراسات اللازمة، وذلك لكلفة هذه الدراسات، ولعدد هؤلاء الاختصاصيين المحدود جداً في لبنان، وللوقت الذي يحتاجه هذا النوع من الأبحاث الدقيقة، التي تحتاج لأخذ عينات من الصخور وفحصها لمعرفة مدى تأثير المياه عليها، ما لا يتناسب مع تعهّدات "هات إيدك ولحقني".

وعن المعالجة، يقول زعطيطي: "كما ان تنفيذ مشاريع الطرقات يكون على أساس خاطئ، فالمعالجة ايضاً تكون على المبدأ نفسه، فيعتمد المعنيون ترقيع الطريق بدلاً من تنفيذ قنوات خاصة تساهم بصريف الوحول الضاغطة من تحت الطريق عبر الجوانب، تجنباً لانخساف الطريق.

فهل سيتنبّه أصحاب القرار لضرورة عدم إغفال هذه الدراسات في تلزيمات إنشاء الطرق... أم علينا انتظار المزيد من مشاهد "الانفلاش" الأرضي المرعبة في مواسم الشتاء اللاحقة؟