هي مفارقة لبنانية بامتياز: بعد كل اشتباك سياسي أو "حرب كلامية" بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، يتعمّق التفاهم أكثر فأكثر بين الطرفين! عند كل محطة خلافية، يتوقع الكثير من اللبنانيين والسياسيين احتمال فرط عقد التحالف، والتسوية الرئاسية، بين الرجلين، سعد الحريري وجبران باسيل، لتخيب توقعاتهم أو ظنونهم لاحقاً، لتعود العلاقة أفضل مما كانت. وهذا يؤكد أن المسار الذي ينتهجه الرجلان، هو أبعد بكثير من حدود الأفكار السياسية التقليدية السائدة. يمكن وصف العلاقة بين الطرفين، بأنها علاقة ضرورية ما فوق سياسية. "المصلحة" فيها هي الصفة الغالبة والبارزة.

يمكن تشبيه العلاقة - الاشتباك بين الحريري وباسيل، بمشهد رقصة التانغو، بحدّتها وكوريغرافيتها، التي تجمع تعبيرات التحدي مع الانجذاب والشغف، وتجمع تعبيرات الصراع مع التكامل، الانفصال والوصال، التناغم والتعارض، الحب والمبارزة. والأهم أن لا رقصة تانغو من دون "شريك".

غطاء رئاسة الجمهورية

عندما يقدم باسيل على خطوة تصعيدية تجاه الحريري، غالباً ما يتم تغليفها بغطاء سياسي من رئيس الجمهورية. تجلّى عمق التوافق على المواقف بينهما منذ الصراع على الصلاحيات، وتسليم عون لباسيل ملف التفاوض لتشكيل الحكومة، وفق الشروط التي يريدها، وصولاً إلى الخلاف الأخير والتطابق الكامل والمتكامل في مواقف عون مع مواقف باسيل. ما يعني أن نظرية الفصل بين رئيس الجمهورية ورئيس التيار غير صحيحة. لا يترك عون مناسبة إلا ويؤكد فيها أنه راعي باسيل ومانحه الغطاء الكامل في كل ما يقوم به. خلاف باسيل مع كل القوى السياسية الأخرى من السنيورة إلى القوات والمردة، هو خلاف عون بالأساس، وهو يندرج في حصر الإرث الذي يستحوذه وزير الخارجية من رئيس الجمهورية.

بعيد المصالحة التي جرت بين الحريري واللواء أشرف ريفي، في بلس، برعاية الرئيس فؤاد السنيورة، أكد الحريري أن اللقاء عبارة عن فتح صفحة جديدة وطي صفحة الماضي، وبأنها ستكون مناسبة لترتيب البيت الداخلي. هذا الموقف ليس الأول من نوعه للحريري. قال ما يشبه هذا الكلام، بعد لقاء عقده في كليمنصو مع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، وليد جنبلاط، معلناً أن اللقاء سيمهد لإعادة رص الصفوف، في المرحلة المقبلة. لكن بعدها تراجع الحريري عملانياً عن موقفه هذا، وذهب بعيداً في التحالف مع التيار، ما انعكس في شكل الحكومة. ما يعني أن لقاءه مع جنبلاط لم يكن غير وسيلة لتحقيق غاية تشكيل الحكومة. وقبل هذا الموقف، كان للحريري موقف لافت في معراب، بعد لقائه رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، بأن المرحلة تتطلب رصاً للصفوف لمواجهة التحديات، وإعادة العلاقة إلى صلب ثوابتها، لكن تبيّن فيما بعد أن العلاقة هشّة إلى حدّ خسارة القوات لكل مطالبها في تشكيل الحكومة، وفي التعيينات المرتقبة.

الصورة الذكية 

وبعد مصالحة ريفي والحريري، حصل لقاء بين الحريري وباسيل في بيت الوسط، جرى خلاله التفاهم على مختلف النقاط الخلافية، لا سيما ملف التعيينات العسكرية، ومعالجة تداعيات مؤتمر بروكسل، وعدم اصطحاب الحريري للوزير صالح الغريب معه. وفي ملف وزارة شؤون النازحين، لا بد من تسجيل نقطة للحريري، فهو تخلّى عن هذه الوزارة على الرغم من كل الهجمات التي تعرّض لها، لكنه أراد التنازل عنها، لتخفيف "وجع الرأس" عنده من ملف اللاجئين، خصوصاً أن رئيس الجمهورية وباسيل يخوضان حملة قاسية في هذا الموضوع. فأراد الحريري التخلي عن هذا الملف، كي لا يتهم بأنه يقصّر فيه. وهو يعلم، كما يعلم عون وباسيل، بأن لا حلّ لبنانياً لقضية اللاجئين، بل هي جزء من حلّ دولي. فوضعَ الوزارة في عهدة التيار وحلفائه، للقول بأن الوزارة لديهم وهم غير قادرين على فعل شيء.

الصورة الذكية التي يطبعها الحريري وباسيل لتحالفهما، تتجلى في إظهاره هشّاً عند كل مفصل. إذ تظهر "الصورة" أن التفاهم بينهما يهتز عند أي استحقاق أو إشكالية صغيرة، تماماً كما حدث حول مؤتمر بروكسل، أو الهجوم على الرئيس فؤاد السنيورة في "حملة مكافحة الفساد"، أو حتى في التعيينات الإدارية والعسكرية. وبلا شك، أن ثمة استحقاقات أكثر أهمية ستبرز في الأيام المقبلة، ما يعني أن الصورة ستعكس اهتزازاً أكثر لهذا التفاهم. لكن الأساس يبقى، في أنه بعد كل خلاف من هذا النوع، يتعزز التوافق أكثر فأكثر بين الحريري وباسيل.

التوافق على التعيينات

أوحى باسيل، قبل أيام، بأنه يستعد لقلب طاولة الحكومة وإسقاطها. والغاية كانت لتحقيق هدف آخر: تبرير تنازل الجميع وخصوصاً الحريري، بحجة الحرص على بقاء الحكومة، منعاً لتكرار تجربة إسقاطها بالثلث زائد واحد. ويستخدم باسيل تداخل كل العناوين المطروحة مع عنوان مكافحة الفساد، خصوصاً أنه يرفع الشعار لتطبيق المحاصصة، وفق ما تقتضيه متطلبات الطرف الأقوى، أي التيار الوطني الحرّ.

 بعد الخلافات الحادة (كلامياً) بين الطرفين، تمّ التوافق فجأة بينهما. بادر الحريري إلى الاتصال بباسيل، وعمّم على مسؤولي تياره بوقف التصعيد ضد تيار باسيل، وجرى الاتفاق على عقد جلسة للحكومة، كما الاتفاق على ملف التعيينات العسكرية. فالخلاف على تلك التعيينات تجلّى في رفض التيار للعميد محمود الأسمر، الذي يريد الحريري تعيينه في المجلس العسكري، وقد جرى التقدّم سابقاً للحريري بلائحة تضم ثلاثة أسماء لعمداء لا يُفضّل تعيينهم في هذا المنصب، فما كان منه إلا أن رفض، ليوافق التيار فيما بعد على تعيين الأسمر، ولكن بعد صخب سياسي.

مقايضة سلطوية

وثمة من يعتبر أن هذا التصعيد كان عبارة عن مسعى لحرف الأنظار عن مسألة أخرى، وغايته دغدغة كل طرف لمشاعر جمهوره، وللقوى السياسية الأخرى وحسب. وهذا أسلوب أصبح معتمداً من قبل الطرفين، منذ التسوية الرئاسية. المسعى الأساسي الذي يريد باسيل إنجازه، هو تطويق خصومه في الساحة المسيحية، خصوصاً "تيار المردة" و"القوات اللبنانية"، وهذه يستند إليها عبر افتعاله إشكالات مع الحريري، لينأى الأخير بنفسه عن التدخل في التعيينات المسيحية، فيتولى باسيل حصراً هذا الملف، وكيفية التقسيمات فيه، على نحو يحوز فيه بالحصة الكبرى ويوزع الفتات على خصومه. هذا الأسلوب سيتكرر في العديد من المحطات، بين باسيل والحريري، في إطار لعبة توزيع الأدوار وشدّ الحبال ورخيها، خصوصاً أن هناك من يعتبر أن التوافق بين الحريري وباسيل بعيد المدى، ويتصل بتداول السلطة، أو المقايضة ما بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، في المراحل المقبلة. لذا، الشراكة تتعمق أكثر فأكثر بين الرجلين في مختلف المجالات، لا سيما مع دخول مقربين من باسيل إلى مجال شراء حصص في بنك البحر المتوسط.

وهذا المنطق، سيقود إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه للمرحلة السياسة المقبلة في البلد، إذ أن الرؤية الغالبة ستبقى لصالح حزب الله وحلفائه في قوى الثامن من آذار، وهم الذين يتحكمون بكل المفاصل الأساسية في البلاد، مقابل غياب أي رؤية أو توجه سياسي للقوى المخاصمة لهذا المحور.