الفساد هو الوسيلة الوحيدة التي تقنع الطرفين بأن العراق لا يفضل أحدا على آخر، وهو مكتف بنأيه الذي هو عبارة عن عزلة، يتمتع بها الفاسدون بامتيازاتهم التي لن تكون موضع مساءلة.
 

لم يستفد العراق من العلاقة مع إيران. تلك علاقة غير مجدية. فليس لدى إيران ما تقدمه سوى الموت أو التذكير به من خلال المسيرات الجنائزية التي أجادت الحكومات العراقية المتتالية منذ 2003 تنظيمها والإنفاق عليها.

صحيح أن الطائفيين من سياسيي بغداد حاولوا أن يجعلوا من تلك العلاقة قدرا للعراق لا يمكنه أن يفلت منه، غير أنه صحيح أيضا القول إن الحراك الشعبي في مختلف المحافظات العراقية، وبالأخص المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، قد عبر عن الاستياء والغضب من استمرار تلك العلاقة بالأسلوب غير المتكافئ الذي يبدو العراق من خلاله كما لو أنه محافظة إيرانية. لقد صار الحديث عن احتلال إيراني يغطي على مسألة العلاقة بين دولتين.

وقد يبدو ذلك الاحتلال خيارا طوعيا إذا ما تعلق الأمر بالأجنحة السياسية التي يديرها أعضاء سابقون في الحرس الثوري الإيراني مثل هادي العامري وسواه من زعماء الميليشيات الذين تسللوا إلى الدولة العراقية وصاروا يملون عليها قراراتها السياسية، غير أن ذلك الخيار لا يمكنه الاستمرار في ظل التطورات الدولية المتعلقة بالموقف من إيران والتي صار العراق جزءا محوريا فيها. وهو ما يرتب على العراق مسؤولية النظر بجدية إلى علاقته بالولايات المتحدة.

غير أن هناك سؤالا يظل معلقا هو “هل العلاقة بالولايات المتحدة مجدية بالنسبة للعراق، أم أنها شبيهة بالعلاقة مع إيران لا تثمر إلا عن تبعية مذلة وهدر للوقت والثروات؟”.

وكما هو معروف فإن العلاقة بالولايات المتحدة تتسم بتاريخها السيء بدءا بالحصار الذي فُرض على العراق عام 1990، وليس انتهاء بالغزو الذي وقع عام 2003، ونتج عنه كل هذا الخراب الذي لا يزال العراق يعاني من تداعياته التي لا شيء يوحي بانقضائها.

وإذا ما كان بعض العراقيين قد حلموا في وقت سابق بزمن مختلف مع بدء الحماية الأميركية فإن سلطة الاحتلال لم تتكفل بشيء من ذلك القبيل. فمقابل تحطيم الدولة العراقية وشطب الجيش العراقي كان مشروع المحاصصة الطائفية هو البديل الذي فتح الباب أمام خيارين. إما الحرب الأهلية، وإما تسوية يكون فيها الفساد هو الضامن الوحيد لاستمرار توازن معادلاتها.

ولقد جرب العراقيون الخيارين ليقبضوا الثمن الذي لا يزيد عن قيام دولة فاشلة لا تمثلهم ولا ترعى مصالحهم وهي غير مؤهلة لرعاية مستقبلهم وضمانه فهي لا تملك حرية الحركة ولا الإرادة التي تتحكم بمفردات مشروعهم المستقل وبالأخص على مستوى التصرف بالثروات.

الدولة الفاشلة هي صناعة عراقية غير أنها ما كان لها أن تقوم لو أن الولايات المتحدة وضعت إصبع خبرة على أوراقها. غير أنها لم تفعل. بل إنها عمدت إلى تقديم كل وسائل الدعم لحكومة نوري المالكي (ثماني سنوات) التي أسست لقيام الدولة الفاشلة التي تحكمها منظومة الفساد.

لذلك يمكن القول إن العلاقة بالولايات المتحدة التي لم تعلن أنها غيرت طريقة نظرها إلى المسألة العراقية هي ليست غير مجدية فحسب، بل وأيضا ناسفة لإمكانية انخفاض نسبة الفساد، في دولة صار رئيس حكومتها يعترف بأن الفساد قد اخترق كل تفاصيلها، ولم يعد يقتصر على المناقصات ذات التخصيصات المالية العالية.

في سياق تلك المعطيات فإن العراق يواجه وضعا ملغزا، ليس بإمكانه الخروج منه ولا تفكيك أسراره وتحييده، ومن ثم البقاء فيه بأقل الخسائر. فالقوتان اللتان تتجاذبانه وتتحكمان بمصيره من خلال اتفاقهما أو اختلافهما تلعبان دورا سلبيا في صناعة حاضره على أسس لا يمكنه الإفلات منها مستقبلا.

بهذا المعنى فإن العراق من أجل أن يحتفظ بقدرته على البقاء في خضم الصراع الأميركي- الإيراني ينبغي عليه أن يحافظ على دولته الفاشلة ويغذيها بالمزيد من أسباب الفشل الذي لن يتحقق إلا عن طريق الفساد.

الفساد هو الوسيلة الوحيدة التي تقنع الطرفين بأن العراق لا يفضل أحدا على آخر وهو مكتف بنأيه الذي هو عبارة عن عزلة، يتمتع بها الفاسدون بامتيازاتهم التي لن تكون موضع مساءلة.