يستشعر «حزب الله» مرحلة حافلة بالضغوط الدولية عليه. لذلك، قرّر إشهار كل الأسلحة. مبدئياً، في الداخل لا أحد يخيفه. كلّهم عاجزون عن مواجهته. ولا يخشى «الحزب» خروج رئيس الحكومة سعد الحريري من تحت الغربال، ولا طبعاً ابتعاد رئيس الجمهورية ميشال عون والوزير جبران باسيل. لكنه يعتقد أنّ الحريري، إذا تلقّى جرعات سعودية وأميركية، فقد يصبح مؤهلاً لاستثارة أزمة.
 

ورقة الضغط الأساسية التي يراهن عليها «حزب الله» هي ورقة «الفساد». وقد اختار من فصول الفساد تحديداً اسم الرئيس فؤاد السنيورة، وتجاهل سواه، أو ربما تركه إلى مراحل أخرى. و«خطورة» فتح الملفات التي تعني السنيورة، تكمن في امتداداتها التي لا أحد يعرف أين تبدأ وأين تنتهي، سواء بالنسبة إلى المراحل السياسية أو الملفات أو الأشخاص والمرجعيات.

ويعتقد بعض أوساط «المستقبل» أنّ الغاية المقصودة من فتح الملفات هو أن يتمدَّد ليشمل المرحلة السابقة للعام 2005، أي تلك التي كان فيها السنيورة اليد اليمنى للرئيس رفيق الحريري. ووفق الأوساط، سيجد «المستقبل» نفسه في إحراج شديد لسببين على الأقل:

1- هو لا يثق في أنّ الملفات ستُفتَح في شكل عادل وطبيعي، بحيث تظهر مسؤوليات كل القوى السياسية على حقيقتها، وينكشف الفاسد الحقيقي أيّاً كان. ومَرَدّ انعدام الثقة هو أنّ «حزب الله» له «المَونة» اليوم على كثير من الأجهزة والمؤسسات ويخترقها، ولا يجرؤ بعضها على معاكسة توجهاته.

2- إنّ استثارة عنوان الفساد، ولو بالشبهات البعيدة والظنون، خلال عهد الرئيس رفيق الحريري يمكن أن تكون له تداعياته المعنوية، فيما تستعدُّ المحكمة الدولية لإعلان الحُكم في ملف اغتياله. ويرجِّح البعض أن يَصدر الحكم على كوادر من «الحزب». وهكذا، فإنّ الإحراج يكون متبادلاً لدى «الحزب» و«المستقبل».

والالتفاف القوي الذي أظهره «المستقبل»، لحماية السنيورة، مستعيناً بدار الفتوى، هو في الواقع تطويق لمحاولة «حزب الله» توريط عهد الحريري الأب في الفساد الذي يتحدّث عنه. ولقاء الرئيس سعد الحريري قبل أيام مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز يشكل دعماً كبيراً له في هذه المواجهة الحسّاسة.

ولذلك، أعيدت الحرارة إلى العلاقة بين الحريري والسنيورة، وأعيد الاعتبار إلى الرجل الذي عزَلَتْه الانتخابات النيابية، بعدما أتعبَ «المستقبل» بانتقاداته لمسار التسوية وبتشدُّده إزاء «حزب الله». وفوق ذلك، نجح في أن يكون الوسيط الذي أعاد اللواء أشرف ريفي إلى كنف الحريرية.

المطّلعون يتوقفون عند اللحظة السياسية التي أنضجت «الصفقة» بين الثلاثي الحريري - السنيورة - ريفي. فالسعوديون ضغطوا لتحقيقها لكي يعيدوا تماسك الجبهة السنّية، وتقوية جبهة 14 آذار في المواجهة مع «الحزب».

واليوم، كل القوى السياسية السنّية غير المحسوبة على «حزب الله»، بما فيها الرئيس نجيب ميقاتي، باتت مع «المستقبل» أو على علاقة طيِّبة به.

ولكن، من الواضح أنّ الحريري، في ظل هذا التحالف السنّي، سيوحي أنه أكثر «ممانعة» مع نهج «الحزب». وحال التباعد بينه وبين السنيورة يمكن أن تعود، وكذلك حال الطلاق بينه وبين ريفي، إذا عاد الحريري إلى نهج التسوية السابق. وفي أي حال، الرسائل المتلاحقة التي يحملها الموفدون الأميركيون، والتي يُتَوِّجها وزير الخارجية مايك بومبيو الجمعة، تصبّ في هذا الاتجاه.

بالنسبة إلى «حزب الله»، الأمر يذكِّر بمرحلة خريف 2017. آنذاك، كان الحريري سائراً في التسوية وفق المناخ الذي يريح «الحزب»، كما هو الآن، فطلب منه السعوديون أن «ينتفض»، واستقال. ثم جرت تسوية المسألة بتفهُّم سعودي ورهانٍ على تحسُّن الوضع بعد الانتخابات النيابية.

لكنّ «الحزب» يعتبر التحدّيات أكبر هذه المرّة، فالأميركيون رفعوا مستوى الضغوط عليه وعلى إيران بالتوازي. وهم يدفعون ببعض القوى، وفي مقدمها الحريري، لكي تأخذ على عاتقها مهمّة التصدّي.

هذه المرحلة يخشاها «الحزب» ويتوقَّع أن تُتعِبه، بل هي مصيرية إلى حدّ ما. وإذا لم تتم صفقة بين واشنطن وطهران تؤدي إلى وقف الضغط الأميركي، فإنّ المواجهة التي سيخوضها «الحزب» في لبنان ستكون قاسية، إذ لا يمكن الاستهانة بانعكاس العقوبات على المدى البعيد. ولذلك، هو يتصدّى لها بكل ما يملك من أوراق.

يقول المطّلعون إنّ المعارك التي اندلعت بين الحريري والوزير جبران باسيل هي في أحد وجوهها انعكاس لضغط «حزب الله» على الحريري. وغالباً ما ارتأى «الحزب» أن يترك لحليفه المسيحي مهمّة الاشتباك مع «المستقبل» ليرتاح هو في خلفية الصورة ويحقّق هدفين على الأقل:

أن يضمن صلابة موقف عون و«التيار» معه في الملفات الاستراتيجية، وأن يزرع إسفيناً في تفاهم الحريري - باسيل. ولطالما اعتمد «الحزب» على حليفه المسيحي لمواجهة «المستقبل» في الأزمات الكبرى، تجنّباً لتسعير النزاع المذهبي.

وحتى اليوم، لا مخاوف كبيرة من انهيار التسوية. فالجميع يرون مصالحهم في استمرارها. لكنّ «حزب الله» يفضِّل محاصرة الحريري، من باب الاحتياط على الأقل.