بالامس إستعيدت صورة تظاهرة 14 آذار مارس 2005 ، التي حفرت في التاريخ اللبناني، والتي سجلت في الوعي السوري، والتي شوهدت في المجال العربي والمدى العالمي، بصفتها واحدة من أكبر الحشود التي تشهدها بيروت، وتحفظها دمشق، وتتردد أصداؤها في مختلف العواصم العربية.

كانت فورة غضب عارم في بيروت، وكانت جرس إنذار مدوٍ في دمشق، وكانت في بقية أنحاء العرب والعالم، (لسوء الحظ)، مجرد إستجابة لبنانية خفية لنداء الغزو الاميركي للعراق الذي كان في سنته الثانية، والذي ساعد في الترويج لفكرة ان وقت الجيش السوري في لبنان قد أنتهى، ولن تجدي نفعاً الصيغة المواربة التي راجت في ذلك الحين عن أن "وجوده شرعي وضروري ومؤقت"، والتي كانت سبباً رئيسياً ووحيداً لإغتيال الرئيس رفيق الحريري.


الصورة ما زالت مرفوعة على بعض الجدران، مع أنها تحطمت بسرعة شديدة، وتشرذم الجمهور التي رسمها بطريقة باهرة، ولحقت به هزيمة ساحقة، كانت ثمن مطالبته بإخراج الجيش السوري من لبنان.. ومساهمته في تقديم ذلك المثال العربي الذي يوفره الاستثناء اللبناني: الشعب يخرج الى الميادين والساحات، يريد إسقاط حكم العسكر والاجهزة الامنية، لكنه لا يعرف ماذا يريد بعد ذلك، فيعود الى مساكنه ضائعاً باحثاً عن برامج وعن قادة وعن أساليب للانتقال الى حكم مدني بديل، يوفر قدراً معقولا من الحريات والعدالة الاجتماعية.


اليوم يبدو أن خيبة تلك التجربة اللبنانية الخاطفة، كانت بمثابة رؤية مبكرة لما ستشهده بلدان الربيع العربي، في ما بعد ست سنوات، من إنتفاضات شعبية على المؤسسات العسكرية والامنية الحاكمة، كانت أشبه بردة فعل غاضبة وعابرة على العسكر والشرطة، إفتقدت، كما في الحالة اللبنانية، الى أفكار وأدوات وقيادات تنظم عملية التغيير وتحول دون السقوط ضحية الخديعة السياسية من جانب الانظمة او الخطيئة الاسلامية التي جرى توزيعها على الورثة.


كانت التجربة اللبنانية فريدة. لم يسقط النظام السوري – اللبناني الذي أنتفضت الغالبية اللبنانية الساحقة ضده، ولم يكن بحاجة حتى للعودة الى حكم لبنان. كان يكفيه الاعتماد على إختراقاته اللبنانية الواسعة، لكي يعلن عودته (الثانية) الى لبنان، وإستعادته دوره الراجح في صناعة القرار اللبناني، مستفيداً من ضحالة خصومه اللبنانيين وإنعدام حسهم الوطني وإنبعاث حساسياتهم الطائفية والمذهبية، حتى قبل تفرق تلك التظاهرة البيروتية المشهودة.


في إستعادة تلك الذكرى الميتة، لا يؤلم سوى حقيقة أن الاشقاء السوريين تحديداً، الذين أغواهم ذلك المشهد اللبناني الباهر، وكان منهم من يتمنى المشاركة به، حسب إعترافاتهم الخاصة في تلك الايام الغابرة، لم يتعلموا شيئاً من ذلك الدرس، ولم يستخلصوا منه أي عِبر، في صراعهم مع النظام نفسه. صحيح ان الإخفاق اللبناني السريع، لا يوفر الكثير من الدروس، لكنه يفترض على الاقل أن يعين في تفادي بعض الاخطاء اللبنانية، وربما في تجنب او ربما تأجيل الهزيمة الراهنة وتخفيف وطأتها.


ليس المقصود الدخول في مقارنة بين الانتفاضتين. فلكل منها ظروفها وشروطها ووقائعها الخاصة، والاهم من ذلك أن لبنان لا يستحق ان يكون قدوة لأحد.. برغم ان الاشقاء السوريين إستلهموا أسوأ مظاهر الحرب الاهلية اللبنانية، وإعتمدوها بطرق أدت الى ذلك الافق المسدود لثورتهم، التي كان يمكنها ان تتدبر أمورها حتى مع الاجتياح العسكري الإيراني والروسي الواسع النطاق لبلادهم، وما زال بمقدورها ان تناور وتقاتل من أجل بلورة مشروعها السياسي، الذي لا يزال أدنى من المشاريع السياسية التي صاغها اللبنانيون خلال الحرب.


تستعاد صورة بيروت في 14 آذار مارس 2005 ، مثلما تستعاد صور ساحات درعا البلد وحمص وغيرها، في آذار مارس العام 2011 ، بالكثير من الأسى، والحنين.. وبالقليل من الأمل، بأن وقت ذلك النظام اللبناني -السوري المشترك ، قد شارف على الانتهاء.