محاربة إيران.. رغبة لا تفارق ترامب ومعاونيه
 
تتشبث السياسة الخارجية الأميركية منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بأنه لا يمكن أن يتحقق أي سلام في العالم دون مواجهة إيران والحد من نفوذها الذي يزعزع استقرار الشرق الأوسط والعالم بأسره، ولذلك شددت الإدارة الأميركية في مرحلة أولى من عقوباتها الاقتصادية على طهران، علاوة على تصاعد وتيرة التهديدات المنذرة بإمكانية واردة للجوء إلى حل عسكري ينهي مسلسل الوعد والوعيد بين الطرفين.
 
وفي الوقت الذي تصب فيه ترجيحات كثيرة بأن تذهب واشنطن نحو حل عسكري يكسر شوكة طهران، بدت مواقف الدول الأوروبية رافضة لأي مواجهة مع إيران، وهو ما يستدعي وجوبا طرح أسئلة مهمة تتعلق بالسياسة الخارجية منذ مطلع عام 2019، هل يعتبر دونالد ترامب متهورا بما يكفي لشن حرب مع إيران؟ وهل يمكن أن تؤدي الأعمال العسكرية المحدودة، مثل تصعيد القصف الإسرائيلي على القوات الإيرانية داخل سوريا أو الهجمات الأميركية المحتملة عبر الحدود من العراق أو الصدام بين السفن البحرية الأميركية والإيرانية في الخليج، إلى حرب أوسع؟
 
الإجابات عن هذه الأسئلة تثير القلق، إذ يمكن أن يحدث كل ما ذكر رغم معارضة أوروبا الغربية لأي صراع مستقبلي مع إيران، وعدم تأييد روسيا والصين لذلك، وخوف معظم خبراء السياسة الخارجية في واشنطن من اندلاع مثل هذه الحرب، التي قد تشتعل في نهاية الأمر.
وقد تؤدي السياسة المشحونة ضد إيران التي يقودها ترامب ومعاونوه الأكثر تشددا مثل وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون، إلى نشوب صراع ذي تداعيات كارثية.
 
ومن المخاطر التي قد ترافق شن أي حرب واسعة النطاق ضد إيران، أن تتسرّب تداعياتها إلى معظم دول الشرق الأوسط، وليس إلى السعودية وإسرائيل فقط (المناهضتين لأنشطة طهران)، ولكن أيضا إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول الخليج المختلفة. حيث يمكن أن تصبح الحرب، كما وصفها الرئيس الإيراني حسن روحاني مرددا بلا وعي كلمات عدو إيران اللدود، الرئيس العراقي السابق صدام حسين “أم كل الحروب”.
 
وبمجرّد وجود جون بولتون ومايك بومبيو في مناصب هامة بالإدارة الأميركية، تغيب القيود على سياسات ترامب تجاه طهران. ومما يدعم فرضية المضي قدما في شن حرب واسعة ضد إيران أن كبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي، ومستشار الأمن القومي هربرت مكماستر، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، الذين كانوا يحثون الرئيس على توخي الحذر، لم يعودوا موجودين لتعديل خطوات ترامب.
 
حرب تهدد أمن المنطقة
في سياسة دونالد ترامب الخارجية، من الصعب التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، خاصة عندما يتعلق الأمر بإيران، ومن المنطقي افتراض أن ترامب وبولتون وبومبيو لا يخططون لتكرار نسخة الغزو العسكري أحادي الجانب للعراق الذي أعلنه الرئيس جورج دبليو بوش في ربيع سنة 2003.
 
ومع ذلك، فإن الدعوة العلنية إلى الإطاحة بحكومة طهران، وقرار الانسحاب من الاتفاقية النووية الإيرانية وإعادة فرض عقوبات مرهقة لإعاقة اقتصاد البلاد، وتشجيع الإيرانيين على الانتفاضة، والدعم العلني لمختلف الجماعات المنفية، أو الانضمام إلى إسرائيل والسعودية في تحالف غير رسمي ضد إيران، فإن الأطراف الثلاثة تسعى بوضوح لدفع النظام الإيراني إلى الانهيار.
 
كل هذه الخلافات يمكن أن تتحول إلى حرب مشتعلة إذا ما تصاعدت الاشتباكات في ثلاث نقاط، أولها سوريا ولبنان. فقبل أسابيع، تباهى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علانية بأن سلاح بلاده الجوي نجح في إخراج أهداف إيرانية في سوريا. وشنت إسرائيل العشرات من الضربات على امتداد عام، أدت إلى تزايد الخسائر في صفوف الإيرانيين، لكن القيادة الإيرانية تجنبت الرد المباشر الذي من شأنه أن يزيد من حدة المواجهة مع إسرائيل، تماما كما تجنبت إطلاق العنان لحزب الله.
 
لكن، يمكن أن يتغير هذا إذا ما قرر المتشددون في إيران شن رد انتقامي. وإذا انفجر هذا الصراع، سينضم الرئيس ترامب إلى النزاع إلى جانب إسرائيل وسيستجيب الديمقراطيون في الكونغرس بسرعة لدعم الدولة اليهودية.
 
أما النقطة الثانية، فتتعلق بالعراق الذي يعتبر نقطة اشتعال أخرى محتملة. ففي فبراير، ذكر ترامب في مقابلة ضمن برنامج “فيس ذي نيشن” على شبكة “سي بي إس نيوز” الأميركية أنّه يريد إبقاء القوات في العراق لأنه يريد أن يراقب إيران، “لأن طهران تمثل مشكلة حقيقية”.
وجاء إعلان ترامب بعدما كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أن جون بولتون طلب من البنتاغون تقديم خطة لمهاجمة إيران. ليطرح البنتاغون عدة خيارات، ردا على هذا الطلب، بما في ذلك شن هجوم جوي عابر للحدود على منشآت عسكرية إيرانية. لكن وزير الدفاع جيمس ماتيس وغيره من كبار المسؤولين في الوزارة عارضوا بشدة هذا الطلب.
 
وتزامنا مع ذلك، شن هجومان صاروخيان على المنطقة الخضراء المحصنة التي تضم مقرات حكومية وسفارات وبعثات أجنبية وسط بغداد، وعلى مطار البصرة الدولي، في المدينة العراقية المطلة على الخليج العربي، ولم يتسبب أي منهما في وقوع إصابات.
 
ومن ناحيته، ألقى بومبيو في مقال منشور له في مجلة “فورين أفيرز” اللّوم على إيران في الهجمات التي وصفها بأنها قاتلة، بقوله “لم توقف إيران هذه الهجمات التي نفذها وكلاء دعمتهم بالتمويل والتدريب والأسلحة. ستحمل الولايات المتحدة النظام في طهران مسؤولية أي هجوم يتسبب في إصابة موظفينا أو يلحق الضرر بمنشآتنا. واشنطن سترد بسرعة للدفاع عن حياة الأميركيين”.
 
ورغم ذلك فإن الولايات المتحدة لم تشن إلى الآن أي “ضربات انتقامية”، لكن لا شك أن هناك خططا موجودة، وأن بولتون وبومبيو قد يقنعان رئيسهما برد الفعل، مما سيخلف عواقب كارثية.
 
ثالثا، ستجد دول الخليج نفسها كنقطة اشتعال. فمنذ ولايتي جورج دبليو بوش، كانت القوات البحرية الأميركية قلقة بشأن الاشتباكات المحتملة مع القوات البحرية الإيرانية في تلك المياه، ووقعت حوادث بارزة. كما أن إدارة أوباما حاولت -لكنها فشلت- إنشاء خط اتصال مباشر يربط قادة البحرية الأميركية والإيرانية، لتفادي أي حادث من هذا القبيل، وهي مبادرة تبناها رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأميركي آنذاك، الأدميرال مايك مولن، المعارض لفكرة الحرب مع إيران.
 
وفي العام الماضي، طلب ترامب من فريقه للأمن القومي رسم خطة لضرب سفن إيرانية سريعة في الخليج، وهي زوارق حربية صغيرة في الخليج، وسأل الرئيس وزير دفاعه آنذاك، ماتيس “لماذا لا نقوم بإغراقها؟”.
 
البحث عن تبريرات
لقد عزز الوجود البحري الأميركي هناك بالفعل، وجذب انتباه إيران التي ردت بالمثل. وفي وقت سابق من هذا العام، أعلن حسن روحاني أن بلاده طورت غواصات قادرة على إطلاق صواريخ كروز ضد أهداف بحرية، وبدأ الإيرانيون كذلك سلسلة من الألعاب الحربية في الخليج. وفي أواخر شهر فبراير الماضي، أطلقت الغواصات الإيرانية صاروخ كروز في مناورات بحرية واسعة تجريها القوات المسلحة في مضيق هرمز لأول مرة في تدريبات بحريتها في الخليج.
 
ويشبه المتابعون للسياسة الأميركية الخارجية الحالية خطوات ترامب بالحجج التي اعتادها سابقا جورج بوش وديك تشيني لدى  تبرير غزو العراق، حيث نشرت صحيفة “واشنطن تايمز” تقريرا في منتصف فبراير قالت فيه “يشكل تحالف النظام الإيراني والقاعدة تهديدا غير مقبول للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة كما يمهد الطريق ويوفر أرضية ممكنة للولايات المتحدة لتبرير قانوني لمواجهة عسكرية مع النظام الإيراني والميليشيات التابعة له بالوكالة”.
 
ونقلت مقالة في واشنطن تايمز، عن السفير الأميركي رايان كروكر، أن الدعم الإيراني للميليشيات المسلحة في العراق قد زاد، سعيا منها لزيادة نفوذها في دول الشرق الأوسط. وقال “دخلت حرب إيران في الشرق الأوسط مرحلة خطيرة وجديدة، تتمثل في ضخ المزيد من الأموال والأسلحة والمستشارين إلى الدول التي تسعى لتدعيم نفوذها فيها”. وأشار المقال إلى السعي إلى استخدام هذه المعلومات لإنشاء “تبرير قانوني محتمل للضربات العسكرية ضد إيران أو وكلائها”.
 
دعم المتشددين في إيران للحرب
 
تواجه إدارة ترامب صعوبة متزايدة في العثور على أطراف جديدة تنضم إلى تحالف جديد لمواجهة إيران على أرض الواقع. يبقى العضوان الوحيدان حتى الآن هما إسرائيل والسعودية، لكن في الشهر الماضي، قال رئيس الوزراء نتنياهو إن إسرائيل والعرب يريدون الحرب مع إيران.
 
وفي اجتماع نظمته واشنطن في منتصف فبراير في وارسو عاصمة بولندا، لتجنيد قادة العالم في حملة مستقبلية ضد إيران، سمع نتنياهو يقول بالعبرية “هذا اجتماع مفتوح مع ممثلي الدول العربية الرائدة من أجل تعزيز المصلحة المشتركة للحرب مع إيران”.
 
وفي محاولة لتهدئة الأوروبيين، أعادت الولايات المتحدة وبولندا تسمية القمة لتصبح “المؤتمر الوزاري لتعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط”.
 
ورغم تغيير الاسم لم تنطل الحيلة على الأوروبيين، ما جعل نائب الرئيس مايك بنس وبومبيو يشعران بالحرج من عدم حضور الفرنسيين والألمان والاتحاد الأوروبي، ورفضهم إرسال ممثلين على المستوى الوزاري، إذ تركوا سفراءهم في وارسو يمثلونهم. وبالمثل، لم ترسل العديد من الدول العربية سوى وفود منخفضة المستوى. كما قاطعت تركيا وروسيا هذا المؤتمر، وعقدتا قمة خاصة بهما، حيث التقى الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان بروحاني.
 
وأدان بنس الأوروبيين لرفضهم الانضمام إلى واشنطن. حيث بدأت كلمته في المؤتمر بقوله “لقد حان الوقت لشركائنا الأوروبيين للانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني”. وتعيد هذه التعاليق إلى الأذهان تعليقات وزير الخارجية الأميركي السابق رامسفيلد الساخرة في أوائل 2003، حول ألمانيا وفرنسا،  كقادة “أوروبا القديمة”. حيث أيّد عدد قليل من الحلفاء خطط غزو واشنطن للعراق، والتي لم تمنع نشوب الحرب.
 
لكن بنس كان محقا في قوله إن الأوروبيين اتخذوا خطوات لإنقاذ الصفقة النووية الإيرانية، والمعروفة باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، حيث أنه ووفقا لبيان وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، أقاموا آلية مالية خاصة تسمح للاتحاد الأوروبي بإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني عن طريق الالتفاف على منظومة العقوبات الأميركية لـ”دعم التجارة المشروعة مع إيران”.
 
ولآلية “انستكس” غرض سياسي. فالانسحاب الأميركي من خطة العمل الشاملة المشتركة كان بمثابة ضربة قوية للرئيس روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف وغيرهم من الوسطاء في طهران الذين تباهوا بالصفقة بين إيران والقوى العالمية الست (الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا والصين) التي وقعت الاتفاقية. حيث قوبل الاتفاق بالترحيب في إيران لأنه بدا وكأنه يضمن قدرة تلك الدولة على توسيع تجارتها لتشمل بقية العالم، بما في ذلك صادراتها النفطية، دون عقوبات.
وواجهت إيران حتى بعد أن تخلى ترامب عن الصفقة ضغوطا أميركية، كما لم تتحسن الأمور بأي حال من الأحوال بالنسبة إلى الإيراني العادي. والأسوأ من ذلك، اتخذ الاقتصاد اتجاها كارثيا في العام الماضي، إذ تدهورت العملة، وتفشى التضخم، واندلعت الإضرابات والمظاهرات في الشوارع، مما خلق تحديا للحكومة وقيادتها الدينية التي تستوعب بعض الهتافات التي ترددت هذه السنة، مثل “الموت للدكتاتور”.
 
وفي نهاية شهر فبراير، بدا الأمر كما لو حقق ترامب وبولتون وبومبيو انتصارا عندما أعلن ظريف وزير الخارجية الإيراني ذو التوجه الغربي استقالته. وتعرض المعتدلون الذين دعموا خطة العمل الشاملة المشتركة، بما في ذلك روحاني وظريف، لهجوم من المتشددين في البلاد منذ انسحاب ترامب. ونتيجة لذلك، كان قرار ظريف علامة مقلقة على أن هؤلاء المتشددين قد انتصروا على ضحيتهم الأولى.
 
وتسربت تكهنات لا أساس لها من الصحة تقول إنه دون ظريف، الذي عمل مع الأوروبيين للحفاظ على ما تبقى من المعاهدة النووية، قد تتخلى إيران نفسها عن الاتفاق وتستأنف برنامجها النووي. ومن المرجح أن تصرفات وتصريحات بولتون وبومبيو ومؤيديهم قد قوضت المعتدلين في إيران، بينما شجعت المتشددين على ادعاء صحة ما قالوه من قبل.
ورغم الضغط الداخلي على ظريف، إلا أن استقالته لم تدم طويلا، فقد رفضها روحاني، وكان يتمتع بدعم كبير في البرلمان الإيراني. كما سانده الجنرال قاسم سليماني، وهو شخصية بارزة في فيلق الحرس الثوري الإسلامي في البلاد وقائد فيلق القدس القوي.
 
ووفقا للمحللين، تبدو استقالة ظريف خدعة للفوز بالثقة السياسية ويبدو أنها عززت قوته في الوقت الحالي، ومع ذلك، فقد أدت أزمة استقالته إلى توضيح حدة التوترات العميقة داخل السياسة الإيرانية وأثارت سؤالا مهما، فبينما تسارع إدارة ترامب في البحث عن مواجهة، هل ستجد ردا من المتشددين الإيرانيين الذين يرغبون في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة؟
 
الاجابة عن هذا السؤال تحيل إلى أنه ربما هذا هو ما يريده بولتون وبومبيو بالضبط. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الولايات المتحدة تستعد لحرب أخرى من غير المرجح أن تنجح كما تأمل واشنطن.