انسحاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من الترشح لولاية خامسة، انتشل الجزائر من أزمة كبيرة، كانت تهدد بتفجير الأوضاع بعد قيام المظاهرات الحاشدة، التي واجهها الجنرالات بالتحذير من الإخلال بالأمن، لكنه انسحاب ارتبط بخريطة طويلة ستضع الجزائر أمام مجموعة من التحديات الجسيمة، وهو ما يتطلّب بالضرورة وجود عناصر ونيات تساعد على التوصل إلى تفاهمات وطنية دقيقة حول قضايا مهمة ومصيرية، خصوصاً بعدما اعتبرت المعارضة الأمر خرقاً للدستور وتمديداً ضمنياً لعهدته الرابعة!

ذلك أن بيان بوتفليقة العزوف عن الترشح لعهدة خامسة، لم يقف عند حدود تأجيل موعد الانتخابات التي كانت ستجري في 18 أبريل (نيسان) المقبل، دون تحديد موعد جديد لها، وهو ما دفع الكثيرين إلى القول إن هذا تمديد ضمني للولاية، بل إن البيان ارتبط بخريطة طريق طويلة، لمؤتمر تأسيسي يفترض أن تنبثق منه الجمهورية الثانية، أو الجزائر الجديدة!

وقياساً بتوزّع القوى السياسية والحزبية، وبنفوذ الجنرالات، ومراكز القوى المؤثرة التي يقال إن من يديرها هو شقيق بوتفليقة سعيد الذي يعمل مستشاراً له، ليس من السهل التفاهم سريعاً من الآن، وحتى نهاية هذه السنة، كما أشار بيان بوتفليقة، على خريطة الطريق المذكورة، خصوصاً بعدما سارعت المعارضة إلى رفض هذه الخريطة والدخول في حوار مع السلطة، واستمرت في التظاهر، ما يضع الجزائر أمام منعطفين؛ إما الذهاب إلى وضع دستور جديد يؤسس للجمهورية الثانية، وهذا يتطلب توافقاً وطنياً ليس متوافراً، وإما الانزلاق إلى صدام يعيد البلاد إلى «العشرية الدامية» التي يخشاها الجميع.

ولأن الأمور بهذا التعقيد، رفض الأخضر الإبراهيمي الدبلوماسي الجزائري المحنك والعريق، الذي وضع بصمات وساطاته وأفكاره الراقية في ملفات دولية كثيرة، أن يرأس «الندوة الوطنية» المقترحة، أولاً لأن ذلك يتطلب توافقاً واسعاً بين المشاركين، كما قال، و«لأنني عجوز في الخامسة والثمانين وبيروقراطي قديم»!

الأخضر الإبراهيمي صديق مقرّب من بوتفليقة، وله احترامه العميق الذي يصل إلى مستوى الاعتزاز عند الجزائريين، وقد عرفوه مناضلاً ثم دبلوماسياً وسفيراً ووسيطاً ينتقل من مهمة عويصة إلى أخرى أشد تعقيداً، لكنه يحرص تماماً على ألا ينهي مشواره بمهمتين مستحيلتين، آخرها في سوريا والآن في بلده الجزائر.

خريطة الطريق التي وردت في بيان بوتفليقة، سواء كانت من أفكاره، أو من أفكار ومقترحات الذين يديرون السلطة من ورائه منذ أعوام، دعت إلى إنشاء «ندوة وطنية مستقلة» لدراسة وإعداد واعتماد كل أنواع الإصلاحات التي ستشكل أسس النظام الجديد الذي سيتمخض عنه إطلاق «مسار تحويل الدولة»... هكذا بالحرف مسار تحويل الدولة، ما يعني وضع أسس الجزائر الجديدة ونظامها وقواعد عمل السلطات فيها.

ولكن هل من السهل في بلد يحكمه رئيس واحد منذ عشرين عاماً، وكان منذ عام 2013 في حالٍ من المرض أقعده، وفي بلد نشأت وراء كواليس الرئاسة فيه قوى نافذة عسكرية وحزبية ومالية، التفاهم على إنشاء هذه الندوة الوطنية ومن تضم؛ خصوصاً عندما يشترط بوتفليقة أن تكون الندوة عادلة من حيث تمثيل المجتمع الجزائري بكل ما فيه من المشارب والمذاهب، أي أن تكون جمعية تأسيسية شاملة.

الأخضر الإبراهيمي يعرف أنه من الصعب تشكيل هذه الجمعية، مع الانقسامات التي ظهرت في الأسبوعين الماضيين، حتى بين رفاق بوتفليقة القدامى، إضافة إلى بروز مراكز قوى مؤثرة كنقابة المحامين، التي هددت بالامتناع عن الإشراف على الانتخابات، والأطباء الذين حذّروا من أي تزوير لشهادات طبية تفيد بأن بوتفليقة قادر صحياً على القيام بدوره رئيساً للبلاد، إضافة طبعاً إلى المتظاهرين الشباب، ونسبتهم 70 في المائة من الشعب الجزائري، وإلى عشرين سياسياً وحزبياً قدموا ترشيحاتهم إلى اللجنة الدستورية لخوض الانتخابات ضد بوتفليقة؟

كيف سيتم انتقاء الذين سيشكلون هذه الندوة الوطنية، وعلى أي أسس ومعايير، ثم يأتي ما هو أعقد وأصعب ويتطلّب مزيداً من الوقت، أي مهمات هذه الندوة التي عليها أن تضع دستوراً جديداً «يضع الجمهورية في أيدي الجيل الجديد والرسالة التي جاء بها»، كما يقترح بيان بوتفليقة حرفياً، وهو ما يدفع إلى طرح السؤال، وماذا سيكون دور الجيل القديم الممسك بالسلطة منذ التحرير من رفاق بوتفليقة؟

هل من السهل الدخول فعلاً في جمعية تأسيسية شاملة تنبثق منها الجزائر الجديدة، خصوصاً أن في الجزائر قوى ساخنة ما زالت تحت رماد ما يسمى «العشرية الدموية»، وهي سنوات الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1991 بعد إلغاء الانتخابات التي كان الإسلاميون يتجهون لتحقيق انتصار فيها، والتي سقط فيها أكثر من مائتي ألف قتيل؟

خريطة بوتفليقة تدعو إلى وضع «دستور جديد وإرساء جمهورية جديدة وسياسات جديدة تقوم على مبدأ توزيع الثروة بطريقة عادلة، والقضاء على التهميش، ووقف الإقصاء، ومحاربة الفساد»، والمعنى العملي لكل هذا أن الواقع الراهن في الجزائر يفتقر إلى كل هذه الإصلاحات، وإذا كان السؤال البسيط: لماذا لم يقم بوتفليقة بهذه الإصلاحات منذ عشرين سنة؟ فإن السؤال العويص: كيف يمكن للجمعية الجديدة أن تقوم بهذا في مجتمع تحكمه قوى سياسية وعسكرية ومالية جعلته يحتاج فعلاً إلى كل هذه الإصلاحات؟

وكيف يمكن تنظّيم استفتاء شعبي عام على هذا الدستور، ثم الاتفاق على تحديد موعد جديد لإجراء الانتخابات الرئاسية التي تأجّل موعدها، وذلك بعد التوصل إلى إنشاء لجنة مستقلة للإشراف على هذه الانتخابات، يتم تحديد آلياتها بمقتضى نص تشريعي خاص يستوحى من أنجح التجارب على المستوى الدولي، ومن سيكون صاحب القرار في اتخاذ كل هذه القرارات والإجراءات!

ولأن كل هذا يفترض أن يتم من الآن وحتى نهاية هذه السنة، بما في ذلك تشكيل «حكومة كفاءات» تشرف على تنظيم الانتخابات، كان من المبرر والمفهوم أن ترتفع الشكوك عند الذين واصلوا المظاهرات في الشوارع الجزائرية، احتجاجاً على ما اعتبروه تمديداً ضمنياً غير مُحدد النهاية لولاية بوتفليقة الرابعة!

في هذا السياق نقلت الوكالات عن قوى المعارضة القول: إذا كانت مدة العهدة الرئاسية في الجزائر خمس سنوات، فإن البرنامج الذي حدده بوتفليقة لقيام الجزائر الجديدة قد يحتاج إلى خمس سنوات، بما يعني أنه وضع خريطة طريق، ليس للإصلاح، بل للحصول على ولاية خامسة من دون عملية انتخاب!