ثمّة حاجة إلى نظام جديد. تكون البداية بالاعتراف بأن الجزائر دولة من دول العالم الثالث في حاجة إلى نظام مختلف يعيد ترتيب الأولويات بما في ذلك الاهتمام بما يريده المواطن العادي وحاجاته الحقيقية.
 

أخيرا وجدت الحلقة الضيّقة المحيطة بعبدالعزيز بوتفليقة طريقة لتمديد ولايته من دون استفزاز المواطنين الجزائريين التائقين إلى تغيير حقيقي في النظام الذي يكرّر نفسه منذ العام 1962 تاريخ الاستقلال، أو على الأصحّ منذ الانقلاب العسكري الذي قاده هواري بومدين في العام 1965. هذا الانقلاب أدخل الجزائر في عالم الأوهام وأسّس للمرحلة التي تلت “عشرية الجمر” التي حاول خلالها الإسلام السياسي الاستيلاء على السلطة.

أدّى انقلاب 1965 إلى ولادة أوهام قائمة على أن الجزائر قوّة إقليمية مهيمنة قادرة على ممارسة نفوذ خارج حدودها. في الواقع لم تكن الجزائر في عهد بومدين سوى دولة تمتلك مالا يأتي من بيع الغاز والنفط. استخدم هذا المال، الذي كان في خدمة أجهزة قمعية، في تطويع الداخل الجزائري، عن طريق الحرمان أحيانا من جهة، وشراء نفوذ خارج حدود الجزائر من جهة أخرى.

في اليوم الذي لم يعد هذا المال موجودا، قامت انتفاضة شعبية على الشاذلي بن جديد خليفة بومدين في خريف العام 1988. لا تزال الجزائر تعاني إلى اليوم من نتائج هذه الانتفاضة الشعبية، التي في أساسها هبوط أسعار النفط، والتي كانت تعني، أول ما تعني، أن على الجزائر الاهتمام بالجزائريين قبل أن تسعى إلى المتاجرة بقضايا من نوع “حق تقرير المصير للشعوب” وما شابه ذلك. هذه شعارات برّاقة تعفي النظام الجزائري من إعطاء حق تقرير المصير للشعب الجزائري نفسه الذي يبدو أنّ المناورة التي قامت بها الحلقة الضيقة المحيطة ببوتفليقة لم تنطل عليه. لم تنطل هذه المناورة على الجزائريين على الرغم من الاستعانة بالأخضر الإبراهيمي، وهو شخصية ذات تاريخ غنيّ في خدمة الجزائر والقضايا العربية عموما.

أعلن بوتفليقة بعد عودته إلى الجزائر، أو على الأصحّ وُجد من يعلن باسمه، عن أنّه لن يترشّح لولاية خامسة وتأجيل موعد الانتخابات إلى أجل غير مسمّى. يظلّ هذا الكلام عن عدم ترشّح بوتفليقة لانتخابات كان مفترضا أن تجري في الثامن عشر من نيسان – أبريل المقبل مبهما. لا جواب عن سؤال في غاية البساطة: متى تنتهي الولاية الحالية للرئيس الجزائري؟

لا جواب عن مسألة في غاية الأهمّية. تتمثّل هذه المسألة في تسليم السلطة إلى رئيس جديد منتخب. هذا ما تخشاه الحلقة الضيّقة المحيطة ببوتفليقة التي يبدو همّها محصورا في شراء الوقت، تفاديا للوصول إلى مرحلة تفتح فيها ملفات المنتمين إلى هذه الحلقة، على رأسهم سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس الجزائري الذي يمارس السلطة فعليا منذ إصابة عبدالعزيز بوتفليقة بجلطة في الدماغ في العام 2013.

هناك مجموعة من الأشخاص تبحث عن حلّ لمشكلة ذات طابع شخصي يعاني منها هؤلاء. اسم هذه المشكلة ارتكابات حصلت في الجزائر في عهد بوتفليقة الذي بدأ في العام 1999. يمكن هنا الحديث عن استغلال للسلطة من أجل تسهيل صفقات كبيرة. قد يكون هذا الكلام مجرّد مبالغات، لكنّ ما يثير الاهتمام هو ذلك الحرص لدى أفراد الحلقة الضيّقة على أن يبقى عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا لولاية خامسة… أو التمديد له سنة أخرى على الأقل بغية الحصول على ضمانات لأشخاص معيّنين.

لا شكّ أن بوتفليقة استطاع ضمان السلم الأهلي. ساعده في ذلك شعور الجزائريين بأنّ عليهم التغاضي عن أمور كثيرة من أجل تفادي العودة إلى “عشرية الجمر” بين 1988 و1998 والتي استطاعت خلالها المؤسسة العسكرية القضاء على التطرّف والمتطرفين الإسلاميين الذين أرادوا تحويل الجزائر إلى دولة يحكمها الإخوان المسلمون.

أيّ دور سيلعبه الأخضر الإبراهيمي في المرحلة المقبلة؟ لا يختلف اثنان على أن لا طموحات سياسية لرجل في الرابعة والثمانين من العمر لا همّ له سوى إنقاذ الجزائر ونقلها إلى مرحلة أخرى عبر “الندوة الوطنية” المقترحة. هذه الندوة لا تزال فكرة وهي تطرح أسئلة ولا تحمل أي أجوبة، خصوصا أنّه ليس معروفا ما الذي يمكن أن تسفر عنه باستثناء الكلام عن دستور جديد وعن إعداد لانتخابات رئاسية. من بين الأسئلة التي تطرحها فكرة “الندوة الوطنية” ما الذي سيجري بعد انتهاء ولاية عبدالعزيز بوتفليقة؟ هل يبقى رئيسا أم يسلّم الرئاسة لهيئة تدير مرحلة انتقالية في انتظار صياغة دستور جديد؟

من الواضح أنّ هدف الحلقة الضيقة المحيطة ببوتفليقة هو شراء الوقت لا أكثر. هذا يعني بكل بساطة أن أفراد هذه الحلقة الضيّقة يريدون بقاء بوتفليقة رئيسا، ولو صوريا، حتّى نهاية السنة. يظل الهمّ الأوّل والأخير لهؤلاء البحث عن رجل يؤمّن لهم الضمانات المطلوبة في حال لم يعد عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا.

تظلّ الضمانات محور الأزمة الجزائرية التي هي أزمة نظام قبل أن تكون أزمة ضمانات لأشخاص معروفين. إنّه نظام سعى عبدالعزيز بوتفليقة إلى تغييره من منطلق شخصي وفي ظلّ حدود معيّنة. أراد بكل بساطة الانتقام من المؤسسة العسكرية التي حرمته من الرئاسة مطلع العام 1979 عندما طرح موضوع خلافة هواري بومدين. لم يعد سرّا أن من تصدّى لعبدالعزيز بوتفليقة، وقتذاك، كان قاصدي مرباح مسؤول ما يسمّى “الأمن العسكري”. أصرّ مرباح، الذي قُتلَ مع نجله في العام 1993 في ظروف غامضة، على الإتيان بالشاذلي بن جديد رئيسا للجمهورية، وما لبث أن لاحق بوتفليقة في قضايا اختلاس عندما كان وزيرا للخارجية. اضطر الرئيس الجزائري إلى تمضية سنوات عدّة في المنفى.

في النهاية، ما دور الأخضر الإبراهيمي، وهو رجل عاقل، في المرحلة المقبلة في حال تولّى إدارة “الندوة الوطنية”، وهو أمر نفاه الرجل؟ هل تؤسس الندوة لنظام جديد يصالح الجزائريين مع الجزائر؟

الخوف كلّ الخوف أن تدخل المؤسسة العسكرية، أو ما بقي منها، على خط إعادة إنتاج النظام المستمرّ منذ 1965. هناك في المؤسسة العسكرية من هو متواطئ مع المجموعة الضيّقة المحيطة ببوتفليقة ولديه مصلحة في توفير الضمانات المطلوبة لأفراد هذه الحلقة.

في كلّ الأحوال، سيبقى العنوان العريض للمرحلة الراهنة، أي جزائر بعد طي صفحة بوتفليقة. هل يمكن أن تقوم جمهورية جديدة بذهنية جديدة بعيدا عن الأوهام التي زرعها هواري بومدين في رؤوس الناس عن عظمة الجزائر ودورها على الصعيد الدولي والأفريقي والعربي، وفي شمال أفريقيا تحديدا.

ثمّة حاجة إلى نظام جديد. تكون البداية بالاعتراف بأن الجزائر دولة من دول العالم الثالث في حاجة إلى نظام مختلف يعيد ترتيب الأولويات، بما في ذلك الاهتمام بما يريده المواطن العادي وحاجاته الحقيقية. ذلك يبدو التحدي الحقيقي أمام “الندوة الوطنية”، فضلا بالطبع عن تحديد موعد نهاية الولاية الرابعة لعبدالعزيز بوتفليقة كخطوة أولى للخروج من جمهورية بومدين التي عمّرت طويلا ولم تجلب سوى الخراب والدمار والفساد وحكم المافيات… والهرب الدائم إلى خارج الحدود الجزائرية!