هناك رفض عراقي شيعي للهيمنة الإيرانية على العراق. لا تنفع مع هذا الرفض كل الميليشيات المذهبية التي أقامتها إيران في العراق، وحاولت تحويلها إلى شرعية عراقية تحت تسمية الحشد الشعبي.
 

بالنسبة إلى إيران، يظلّ العراق جوهرة التاج في الإمبراطورية الفارسية التي يحلم بها الحكام الجدد الذين ورثوا الشاه في العام 1979. ما يؤكد ذلك الزيارة التي يقوم بها للعراق الرئيس الإيراني حسن روحاني وكلامه عن أن “العراق وطننا الثاني”. يحاول الرئيس الإيراني، عبر زيارته، إثبات أن إيران ما زالت في العراق وأنّ شيئا لم يتغيّر في الأشهر القليلة الماضية مع بروز موقف شعبي، شيعي أوّلا، معاد لإيران ومشروعها التوسّعي. مثل هذا الموقف له انعكاساته على الداخل الإيراني. من هذا المنطلق، يتوجب على روحاني السعي إلى احتوائه بكلام جميل ومنمّق بأقل مقدار ممكن من الأضرار.

ما يدركه روحاني في هذا التوقيت بالذات أن العراق ليس في وارد أن يكون مستعمرة إيرانية. لذلك، يتوجب ممارسة ضغوط هائلة من أجل عدم إضاعة المكاسب التي حققتها “الجمهورية الإسلامية” في العام 2003 عندما استطاعت تحقيق انتصار كبير على العراق وإخضاعه بفضل الجيش الأميركي وغباء إدارة على رأسها جورج بوش الابن. لم تدرك تلك الإدارة أنّ كلّ ما فعلته في العراق صبّ في مصلحة إيران التي عجزت منذ العام 1979عن تحقيق هدف ثابت يتمثّل في وضع العراق تحت وصايتها.

في السنة 2019، تكتشف إيران أنّ العراق هو العراق، وأن إيران هي إيران. العرب عرب والفرس فرس. هكذا بكل بساطة. هناك رفض عراقي شيعي للهيمنة الإيرانية على العراق. لا تنفع مع هذا الرفض كلّ الميليشيات المذهبية التي أقامتها إيران في العراق، وحاولت تحويلها إلى شرعية عراقية تحت تسمية “الحشد الشعبي”.

دفع حيدر العبادي رئيس الوزراء السابق ثمنا غاليا بعد إعلانه أن مصلحة العراق فوق أي مصلحة أخرى. بكلام أوضح، وضع العبادي مصلحة العراق فوق مصلحة إيران. أدّبته إيران ومنعته من العودة إلى موقع رئيس الوزراء. جاءت بعادل عبدالمهدي رئيسا للوزراء بعد ممارسة قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” ضغوطا هائلة على أطراف عراقية عدّة. أصبح العبادي، العضو في “حزب الدعوة” والذي لم ينس في نهاية المطاف أنه ابن بغداد، رمزا للتمرد العراقي الشيعي على إيران. لذلك كان لا بدّ من تأديبه. فهم عبدالمهدي الرسالة الإيرانية. جعله ذلك يتصرّف تصرّف الولد المطيع الذي يتحدث عن الأرجنتين كمصدر للمخدرات التي تدخل الأراضي العراقية، في حين معروف تماما أن الأرجنتين هي الاسم الحركي لإيران وليس لأيّ بلد آخر. يقحم عبدالمهدي أيضا بلدة عرسال اللبنانية في قضية المخدّرات. ما دخل عرسال في قضية يغرق فيها العراق؟ هل عرسال هي البصرة التي دخلت معظم المخدرات الآتية من إيران إلى العراق عبرها؟

نجحت إيران في الشكل لكنّها فشلت في الجوهر. تريد إقناع نفسها بأنّ العراق ورقة أساسية في المواجهة التي تخوضها مع العقوبات الأميركية التي بدأت تفعل فعلها. وهذا ما يفسّر كلام وزير الخارجية الإيراني، محمّد جواد ظريف، من بغداد عن شكره للعراق لرفضه العقوبات الأميركية على إيران، معتبرا أنّه “لا يمكن لأيّ قوّة في العالم الفصل بين الشعبين العراقي والإيراني”.

ليس كلام ظريف الذي صدر عشية وصول روحاني إلى بغداد سوى محاولة لبيع الأوهام. إنّه يتوجه إلى الداخل الإيراني مثله مثل روحاني الذي يعرف تماما ما الذي سيعنيه الفشل الإيراني في العراق وتأثير ذلك على وضع النظام.

هناك بكل بساطة وضع جديد في العراق ترفض إيران الاعتراف بوجوده. صحيح أن لديها “الحشد الشعبي” ومجموعة من الميليشيات المذهبية المنضوية تحته والتي تمارس دورا منوطا أصلا بالقوى النظامية العراقية، لكنّ الصحيح أيضا أن في العراق قوى حقيقية تعترض على الوجود الإيراني المباشر وغير المباشر. هناك عمّار الحكيم وهناك مقتدى الصدر، إضافة إلى العبادي وإياد علاوي. هؤلاء جميعا في خندق آخر غير الخندق الإيراني في العراق.

إذا كان من اختراق إيراني في العراق، فهذا الاختراق سُجّل أخيرا في صفوف السنّة الذين كانوا يقفون تاريخيا موقفا معاديا لإيران. ليس سرّا أن رئيس مجلس النوّاب العراقي محمد الحلبوسي من المحسوبين على إيران. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّ إيران تواجه، بشكل عام، مشكلة عراقية فشل قاسم سليماني في إيجاد حلول لها… فكان لا بدّ من الاستعانة بقناعين إيرانيين هما وجها حسن روحاني ومحمّد جواد ظريف. إنهما قناعان باسمان ولا شيء آخر غير ذلك. يقول الرجلان كلاما جميلا لا يعني في نهاية المطاف شيئا. هذا عائد أوّلا وأخيرا إلى أن ليس لدى إيران ما تقدّمه للعراق في أي مجال من المجالات، باستثناء مزيد من التخلّف على كلّ صعيد. هناك فشل عراقي واضح منذ العام 2003. لم يستطع الذين خلفوا صدّام حسين تقديم شيء للعراق والعراقيين. من الطبيعي ألا يكون في استطاعة إيران تقديم أي خدمة للعراق، خصوصا أنّها تعاني من العقوبات الأميركية التي تبيّن أنّها أكثر جدّية بكثير مما يعتقد. حتّى حسن نصرالله، الأمين العام لـ“حزب الله”، بدأ يشكو في لبنان من العقوبات الأميركية التي جعلت إيران في بحث مستمرّ عن الدولار الأميركي…

ليست زيارة روحاني للعراق سوى محاولة أخرى للهرب من الواقع. الواقع يقول إن إيران ما بعد الشاه كانت تجربة فاشلة وفي حال هروب دائمة إلى خارج أراضيها. أينما حلّت إيران، حل الخراب. لا حاجة إلى تعداد ما فعلته في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وما كان يمكن أن تفعله في البحرين أو في أي دولة من دول الخليج العربي.

ليس بالهرب إلى العراق وإجباره على تنفيذ اتفاق الجزائر للعام 1975، يمكن لإيران حلّ مشاكلها مع الشعب الإيراني ومع الإدارة الأميركية. تريد إيران حاليا إجبار العراق على تنفيذ هذا الاتفاق المجحف الذي وقّعه صدّام حسين مع الشاه في مثل هذه الأيّام في الجزائر. تخلى الشاه، وقتذاك، عن الأكراد الذين كان يمكن أن يُسقطوا نظام البعث في العراق، فيما تخلّى صدّام حسين عن حقوق معترف بها للعراق في شط العرب.

لن تحلّ كل هذه الألاعيب والمناورات أي مشكلة من مشاكل إيران المرفوضة من شيعة العراق قبل السنّة فيه. ما يحل مشاكل إيران هو مواجهة الحقيقة والواقع بدل الهرب منهما إلى الأوهام. تقول الأرقام إنّ إيران دولة متخلّفة من دول العالم الثالث لا تمتلك أيّ نموذج يصلح لأي دولة في العالم. ليس لديها ما تصدّره سوى البؤس والغرائز المذهبية والميليشيات. الأكيد أن الرحلة العراقية لحسن روحاني لن تقدّم ولن تؤخر. ما يقدّم ويؤخر هو التعاطي مع الواقع مع ما يعنيه ذلك من طرح أسئلة من نوع: لماذا، بعد أربعين عاما من “الثورة الإسلامية” زاد الفقر في إيران؟