حتى الساعة، لا نعلم ما هي الخطوات العملية التي ستتبعها الحكومة للجم العجز خصوصاً أنّ الموازنة لن تُقرّ قبل نهاية شهر أيّار. هذا الغموض في المعلومات يُسبّب تردّداً في الأسواق ولدى المُستثمرين، خصوصاً أنّ خفض العجز من خلال مكافحة الفساد يظهر كمُهمّة صعبة أمام الحكومة.
يأتي تخفيض العجز في الموازنة العامّة كتحدٍ كبير للحكومة، خصوصاً أنّ العجز في العام 2019 مُرتبط بشكل وثيق بعجز الموازنة في العام 2018، والذي بلغ 5.8 مليارات دولار حتى شهر تشرين الثاني 2018 بحسب أرقام وزارة المال، ومن المُتوقّع أن يتخطّى الـ6 مليارات دولار أميركي في نهاية العام 2018.
 
الإنفاق العام ومنذ أيلول 2017، أخذ منحى جديداً مع مُعدّل شهري بقيمة 1.5 مليار دولار أميركي. والملاحظ من خلال أرقام وزارة المال، أنّ خدمة الدين العام ودعم مؤسسة كهرباء لبنان يساهمان بنسبة ملحوظة في هذا الإرتفاع. وإذا كان الإرتفاع في خدمة الدين العام مُبرّراً بزيادة الدين العام وارتفاع الفوائد، إلا أنّ إرتفاع الدعم لمؤسسة كهرباء لبنان، وعلى الرغم من إرتفاع أسعار النفط، لا يُمكن تبريره إلا بأسباب تقنية ناتجة من تآكل المعامل الموجودة، وبالتالي فإنّ إستهلاك الفيول ارتفع.
 
إذاً، ومما تقدّم، نرى أنّ الإتجاه هو نحو زيادة بالإنفاق في بندين من أعلى البنود الإنفاقية في الموازنة، واللذان مع بند الأجور تشكّل أكثر من 80% من الإنفاق. إذًا كيف يُمكن من خلال خفض الإنفاق التشغيلي ومحاربة الهدر، تخفيض الإنفاق بنفس قيمة إرتفاع البندين الآنفي الذكر؟
 
هناك شبه إستحالة للجم الإنفاق بخطوات تطال الإنفاق التشغيلي فقط. وبالتالي يجب أيضاً مُعالجة بند الكهرباء لخفض هذا العجز، لأن البندين الآخرين أي كتلة الأجور في القطاع العام وخدمة الدين العام، لا يُمكن المسّ بهما.
 
الإنتظام المالي...
 
في النظرية الإقتصادية، لا يُقاس الإنتظام المالي للدولة من خلال عجز الموازنة، لأنّ هذا الأخير يتأثر بسياسة الديون للسنين الماضية (مما ينعكس في خدمة الدين العام)، وبوضع الإقتصاد في الدورة الإقتصادية. وهذا يعني أنّ الموازنة قدّ تُسجّل عجزاً بمعزل عن خيارات الحكومة الهيكلية للموازنة (مستوى الضرائب ومستوى الإنفاق).
 
تحليل الإنضباط المالي يتمّ من خلال القيود المفروضة على ميزانية الدوّلة، والتي تنصّ على أنّ تمويل الإنفاق الإجمالي في الموازنة للسنة المالية، يتمّ من خلال الضرائب أو من خلال إصدارات سندات الخزينة:
 
إصدارات سندات الخزينة الجديدة (زيادة الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + الإنفاق العام.
 
هذه المُعادلة تُظهر أنّ نسبة الدين العام تزيد، إمّا لأنّ الدوّلة تُسجّل عجزاً أوّلياً، وإمّا بسبب زيادة الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النمو.
 
وبالتالي هناك إلزامية أن يُسجّل الميزان الأوّلي فائضاً بقيمة أعلى من قيمة خدمة الدين العام لتحقيق الإنتظام المالي. ولكن هذا ما يفتقر له لبنان. والجدير ذكره أنّ فقدان الإنتظام المالي يعني تهديد ملاءة الدوّلة!
 
يؤدّي الإنتظام المالي إلى توازن الحسابات العامة وميزان المدفوعات مما يزيد الثقة بالإقتصاد ويُخفّف الضغط على الليرة اللبنانية. كما يؤدّي الإنتظام المالي إلى زيادة الإستثمارات الأجنبية المباشرة ويُحسّن القدرة التنافسية للإقتصاد الوطني. لكن كيف يُمكن إستعادة الإنتظام المالي؟
 
سياسة التقشّف ممرّ إلزامي...
 
سياسة التقشّف هي سياسة إقتصادية تتبنّى زيادة الضرائب ولجم الإنفاق العام من أجل تخفيض العجزّ طبقاً للمعادلة الآنفة الذكر. ويتمّ تطبيق سياسة التقشّف من خلال السياسة المالية، السياسة الضريبية أو السياسة النقدية.
 
أهداف السياسة التقشّفية تتمحور حول:
 
(1) تفادي العجز الذي يؤدّي إلى إرتفاع الدين العام ومعه خدمة الدين العام. هذا الأمر يمرّ من خلال السياسة المالية والضريبية. إذ تُرفع الضرائب ويُخفّض الإنفاق مما يؤدّي إلى خفض العجز أو حتى خلق فائض في الموازنة العامّة.
 
(2) الحدّ من التضخّم، والذي له تأثير سلبي على النمو الإقتصادي. وذلك من خلال الإمتناع عن رفع الأجور بشكل كبير (كما حصل في الـ 2017) والذي من شأنه رفع الكلفة على الماكينة الإقتصادية، ما يعني زيادة البطالة وبالتالي تراجع النمو الإقتصادي.
 
(3) الحدّ من الفقاعات المضاربة، وذلك من خلال السياسة النقدية التي تسمح بتقييد الاستثمار وتجنّب فقاعات المضاربة. هذا الأمر عادة هو من مهام المصرف المركزي (وهذا ما قام به مصرف لبنان من خلال رفع الفوائد وزيادة الإحتياط الإلزامي للمصارف).
 
الجدير ذكره، أنّ سياسة التقشّف عادة ما تؤدّي إلى تباطؤ النمو الإقتصادي على الأمد القصير (مثال على ذلك، خطة حكومة الحصّ في العام 1999)، لكن على الأمد المتوسّط إلى البعيد، تُحقّق هذه السياسة الأهداف المنشودة.
 
إعادة هيكلة الإقتصاد...
 
تُشير الأرقام، إلى أنّ عجز الميزان التجاري هو عائق أساسي أمام الإنتظام المالي للدوّلة اللبنانية. فالعرض الداخلي، أي إنتاج الشركات، لا يُلبّي الطلب المحلّي، وبالتالي هو مسؤول بشكل رئيسي عن الخلّل في ميزان المدّفوعات، ومصدر للتضخّم من خلال حجم الاستيراد.
 
من هنا تأتي سياسة التقشّف لتُشجّع القدرات الإنتاجية (عبر سياسة تحفيزية) وفي الوقت نفسه تلجم إرتفاع الأجور على الأمد القصير بهدف رفع التنافسية في الماكينة الإقتصادية.
 
من البديهي القول، إنّ لجم إرتفاع الأجور على الأمد القصير سيؤدّي إلى لجم الإستهلاك وبالتالي إنخفاض النمو. إلا أنه يجب إدراك أنّ هذا هو السعر الواجب دفعه لزيادة النمو الإقتصادي على الأمد البعيد.
 
في الختام، يمكن القول إنّ على الحكومة الأخذ بالإعتبار أهمّية إعتماد سياسة تقشفية، وهي بالطبع سياسة غير شعبية. وبالتالي يتوجّب عليها وقف القرارات التي تزيد من الكلفة على الخزينة العامّة والتحلّي بالشجاعة لإنجاز موازنة ذات مصداقية من خلال خفض العجز في الكهرباء، خفض الهدر والفساد، وإقرار سلّة ضريبية منطقية (على الموارد غير المُستخدمة في الإقتصاد) وتكون أقلّ ضرراً على المواطن اللبناني. لأنّ القول إنه لن يكون هناك ضرائب في موازنة العام 2019 يعني أنّ العجز في الـ 2019 سيكون أعلى من العجز في العام 2018. وهذا الأمر مُعاكس للشروط المفروضة من مؤتمر «سيدر».