يُعرض حالياً في إحدى الصالات الرئيسية في البورغ، المدينة الواقعة في شمال #الدانمارك، وهي ثالث أهم المدن الدانماركية، الفيلم اللبناني #كفرناحوم لمخرجته #نادين_لبكي، الذي سبق وصوله إلى البلاد سمعته الكبيرة، وحضوره الإعلامي، والجوائز التي حصل عليها ومنها، وربما أهمها جائرة مهرجان كانّ. 
 
أن تشاهد فيلماً ناطقاً باللغة العربية، وباللهجة اللبنانية الجميلة ومترجماً إلى اللغة الدانماركية، فهو بحد ذاته حدث غير عادي في الدانمارك، لمن يتقنون العربية أو من أصول عربية، حيث يفتقدون كثيراً إلى هذه الحالة، حينما يسمعون لغتهم، ويرون كيف تُترجم للغة أخرى في بلد طوال الوقت تستمع فيه إلى اللّغة الدنماركية إلى جانب الإنكليزية.
 
ذهبتُ وكنتُ قرأت عن الفيلم، وعن الحضور الإعلامي الذي كان يرافقه في كلّ مراحله، وبعد كل جائزة يحصل عليها، ذهبت وأنا لديّ تصوّر مسبق بأنني أمام وجبة سينمائية من الطراز النادر، ولكن مَن يحضر ليس كمن يسمع.
 
حقيقةً، الحضور كان من الجمهور النخبوي الدانماركي، وهذا ما أضاف ألقاً خاصاً من التفاعل. امرأة دانماركية إلى يميني كانت تبكي. كذلك الدانماركي الذي كان إلى يساري. أما أنا فلم يبكني بتاريخ حضوري للأفلام سوى القليل، ومنها كفرناحوم،  هذه المدينة التي تقع على بحيرة طبريا والتي أخذ الفيلم منها اسمها المقدّس، وكيف لا وفيها وقف السيد المسيح، وأكاد أجزم بأنّ اختيار الاسم لم يكن مصادفة بقدر ما له من تداخل بهذا الحدث الإنجيلي، كأنّه بمثابة خطاب سينمائي بالصوت والصورة والحوار، والأداء العالي للممثلين وكل من كان له لمسات على هذا الفيلم.
يبدأ الفيلم بادّعاء غريب من أمره: الطفل زين يقيم دعوى على والديه بسبب مجيئه إلى هذه الحياة، وإنجابه كي يكون ضمن طابور كبير من الفقراء والمهمّشين. ومن هذه اللحظة في المحكمة تبدأ الأحداث كما أشرت على طريقة الخطف، ومع عودات متكررة إلى قاعة المحمكة، ومن ثم تواصل مشاهد الفيلم في خطها المتصاعد، وفي لفتة ذكية وتقنية كي يتم تذكيرنا بأهمية ما يجري في المحكمة، وسبب وقوف زين أمام والديه، ونبدأ كجمهور بمتابعة الأحداث، وفي كل مشهد فيها تكاد ُتحبسُ الأنفاس مع كل حركة من حركات الممثلين . كثافة عالية بالصورة لما تقوله، وحركة الكاميرا الدائرية التي تغطي الحياة في هذه البقعة الجغرافية بدائرة قطرها 360 درجة، والتي تركز بشغف عال على تفاصيل حياتية مرّ بها أكثرنا، ولكن هنا بنكهة سينمائية ورسائل ايحائية. الحوار بسيط ولكنه كفيل بأن يضعك في فوهة الحدث، وأن تضع يدك على قلبك، حيث لكل كلمة وقعها وكأنّها عملية غربلة حصلت لكل ما هو زائد. وحرص القائمون على هذا الفلم على أن تكون كل كلمة مدروسة، وهذا ما جعل المشاهد يحاول أن لا تفوته أي كلمة، فكان الحوار بناءً آخر وموازياً وظلًّا جميلاً لكل الأحداث، ورغم قسوته في كثير من مفاصل الفيلم، ولكن هذا هو الواقع الذي قامت الكاميرا برصده وأكمله الحوار.
 
طفل آخر ينازع زين الحضور، وهو الرضيع من أم إثيوبية يوهان. شكلت هذه الشخصية مدخلاً إلى تسليط الضوء على مسألة مهمة في المجتمع اللبناني وهي العمالة الأجنبية، وما تعانيه وما تتعرض له من اضطهاد ظاهر للعيان في دولة من دول العالم الثالث التي يفتقد مواطنوها إلى أبسط الخدمات، والعدالة المجتمعية، مع تراكم الفساد الإداري والسياسي، وسبق ذلك حرب أهلية دمرت ما دمرته، ولربما الأهم ما في هذا اللقاء بين الطفلين، هو هذا الانتماء إلى طابور المهمّشين والمنسيين. ولم يكن مفاجئاً رغم طفولية زين، فلقد تبنى يوهان أثناء فترة غياب والدته في السجن، لا بل صار يقول لمن يسأله من هذا الطفل الذي معك إنه أخي، بمفارقة مبكية ومضحكة في الوقت ذاته وبشكل واضح للعيان بأن كلًّا منهما من قارة.
 
ومن الحضور كان الشاعر الدانماركي كلاوس نيفا، وقد جلسنا بعد الفيلم في المقهى، وحاولت أن أعرف انطباعه كدانماركي وكإنسان غربي. وقد لفت انتباهي حضوره للفيلم للمرة الثانية. فكان جوابه مع نظرة واضحة من التأثر بحجم الألم، وقوة الفيلم بنقل هذا العالم المنسي بصورة متقنة واحترافية عالية: "فيلم كفرناحوم جاء في الوقت المناسب، ورسالة قوية وصريحة، وصادقة من القلب و إلى القلب، وبطريقة ذكية جداً، هذا ما فعله فيلم كفرناحوم.
 
حرك أحجاراً ثقيلة ومنقوش عليها هذه المشاكل بوزنها الثقيل "قسوة الفقر" ، "الطفولة المستحيلة"، "عدم المساواة"ُ السبب الرئيسي للهجرة الكبرى من تلك البلاد. وقد أضاف الشاعر كلاوس أن اليفلم قصيدة سينمائية مكثفة بالأحداث التي كان بطلها طفلين هما زين ويوهان. ويمكن هذا الفيلم أن يُظهر للسياسيين في بلادي وللناس حجم الفقر المرعب، وما تعانيه الطفولة، والأحياء الفقيرة في تلك البقعة من العالم .
 
وقد أنهى حديثه بأن "الفيلم يستحق كل الجوائز التي حصل عليها بجدارة وبشكل لافت ومميز".
 
باختصار شديد، أغمض عينيك وضع إصبعك على خارطة الشرق الأوسط، فستلامس كفرناحوم في أي مكان يشير إليه.
 
هذا الفيلم لخص حياتنا ووجعنا وهزائمنا على شكل فيلم في الفن السابع.