يستمرّ المجتمع الدولي في الإستخفاف بمعاناة اللبنانيين وفي المقابل يدافع عن «الحقوق الإنسانية» للنازحين السوريين، فلا يتعامل مع لبنان كدولة بل يتعامل بإستنسابية مع أطراف من دون أخرى، وذلك حسب تماهي نظرة المسؤولين اللبنانيين مع نظرة المجتمع الدولي إلى ملف النزوح. وبدلاً من أن «يتوحّد» اللبنانيون، شعباً ومسؤولين حول هذا الملف لإجبار المجتمع الدولي على التعامل مع موقف لبناني رسمي واحد، تتيح الخلافات الداخلية للخارج التمادي في هذه السياسة غير الجديدة وغير المحصورة بجهة واحدة.
 

تَعَامُل منظمات ومؤسسات دولية مع لبنان «بالسياسة» وتمسّكها بـ«حقوق» النازحين متغاضيةً عن تداعيات الأزمة عليه وعن مطالبه، عانى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون منه تماماً كمعاناة وزير الخارجية جبران باسيل ووزير الشؤون الاجتماعية الأسبق رشيد درباس... ويعاني منه اليوم وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب ووزير الصحة جميل جبق.

وكأنّ المجتمع الدولي يصمّ أذنيه عن الطروحات والأفكار والمطالب اللبنانية. هو يريد تأمين «عودة آمنة» للنازحين بتوقيته وحساباته هو، ويعتبر أنّ من واجب لبنان التحمُل، فالأموال التي يقدمها له تساعده على «الصبر» وتحمُل النزوح.

وبدا أنّ استثناءَ وزراء من الوفد اللبناني المُشارك في مؤتمر «بروكسل 3» حول «دعم مستقبل سوريا والمنطقة» يهدف، حسب مطلعين، إلى عدم طرح موقفين لبنانيَّين أمام الجهات المانحة، والحؤول دون طلب لبنان عودة النازحين الفورية، خصوصاً في ظل امتلاكه معطيات تثبت أنّ هذه العودة طوعية وآمنة، بل الإكتفاء بطلب الدعم المالي من المجتمع الدولي لمواجهة ضغط النزوح، وهذا الأمر يشجعه المشاركون في مؤتمر «بروكسل» ويرحّبون به، فهو يأتي ضمن «سياسة الصبر» التي يطلبها الغرب من لبنان. وكأنّ البلد الذي يحاول إنقاذَ نفسه من الانهيار الاقتصادي يملك «نعمة الصبر».

لا يكلّ عون أمام الوفود الغربية عن ترداد تداعيات النزوح السلبية على كل القطاعات، ولا سيما منها تلك التي تشكّل خطراً كيانياً من مثل أن نسبة ولادات النازحين بلغت 51 في المئة من نسبة الولادات في لبنان.

أما هذه الوفود فتأتي إلى لبنان ناقلة الموقف نفسه، وهو توافر الظروف المؤاتية للعودة «وهي غير متوافرة الآن». وهذا ما توافق عليه ثلاثة زائرين للبنان الأسبوع المنصرم: المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي، وزير الدولة لدى وزارة الخارجية الألمانية نيلز انين، وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية البريطانية اليستر بيرت.

ويبدو أنّ الوفد اللبناني المُشارك في مؤتمر «بروكسل» الذي سيُعقد غداً وبعد غد حُصر برئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الشؤون الاجتماعية ريشار قيومجيان (القوات) ووزير التربية والتعليم العالي أكرم شهيب (الحزب التقدمي الاشتراكي) تماهياً مع المواقف الدولية، ولأن هؤلاء الثلاثة مع «عودة آمنة» للنازحين وضد التنسيق مع النظام السوري.

مؤيّدو هذه النظرة يرون أنّ هناك تضخيماً في «شيطنة» المجتمع الدولي، ويعتبرون أن لا بابَ أمل يشير إلى حلٍّ في سوريا ليتشجّع هذا المجتمع لتأمين عودة النازحين، وذلك ليس لأنه «يتآمر» على لبنان ويسعى إلى أذيّته، بل لأنّ الواقع السائد في سوريا لا يسمح بعودة النازحين بأعداد كبيرة في المرحلة الراهنة وفق المعطيات الظاهرة.

فالمناطق الآمنة في سوريا غير واضحة المعالم، ولا يُمكن اعتبار أنّ المناطق الخاضعة لسلطة النظام آمنة، فالمشكلة أنها خاضعة للنظام، إذ إنّ السبب الرئيس الذي أدّى إلى نزوح غالبية السوريين هو خوفهم وهربهم من النظام لا من تنظيم «داعش».

ويقول هؤلاء إنّ العودة لا يُمكن أن تتحقق من دون إعادة الإعمار، فإلى أين يعود النازح؟ لن يعود للعيش تحت سقف خيمة مثلما يعيش في لبنان حيث إنه على الأقل لا يخاف على حياته.

كذلك، يرون أنّ لبنان لا يُمكنه إلّا مطالبة المجتمع الدولي بتحمُّل كلفة النزوح عليه، ومواجهة المجتمع الدولي لن تفيد في شيء، فهو غير قادر على إعادة النازحين بمعزل عن هذا المجتمع، وليس في إستطاعته إعادتهم بالقوة أو إقناعهم بالعودة وإلّا لكان فعل هذا سابقاً.

لكنّ الفريق الذي استُبعد من المؤتمر أو قرّر عدم المشاركة فيه يصرّ على مواجهة المجتمع الدولي ويعتبر أنّ هذا قرار سيادي لبناني، ويؤكد أنه سيواصل العمل على «العودة الطوعية» للنازحين.

على الصعيد العملي يشرح أحد العاملين على ملف النازحين «أنّ هناك واجبات على لبنان تحقيقها بدلاً من التلهّي بالخلاف حول مصطلح «العودة الطوعية» و«العودة الآمنة»، فلا يمكننا لوم المجتمع الدولي ونحن لا نبلغ اليه إلّا خطابات، وإنّ فبركة الحل وإنتاجه من شأن لبنان ولا يجب توقُّع من أيّ جهة خارجية «لا تشعر» بضغط النزوح أن تسعى إلى إنقاذ لبنان من هذا الملف. بل على الدولة اللبنانية إعداد مشروع حل وتسويقه لدى «دول الالتقاء» العربية والغربية وأن تجمع حوله مجموعة أصدقاء.

كذلك، على الحكومة إعادة تفعيل عمل لجنة الأزمة، وإعتماد قرار حكومة الرئيس تمام سلام حول ملف النازحين في حزيران 2014. ومن أبرز ما هو مطلوب من لبنان تفعيل عمل برنامج رصد التحركات السكانية لإحصاء أعداد السوريين بنحوٍ تفصيلي وإجراء إحصاء حقيقي يضاهي إحصاء مفوضية شؤون اللاجئين: من أين يأتون، عدد الإناث والذكور والأطفال والأعمار... وأين يسكنون في لبنان؟...

ويشير بعض الإحصاءات إلى أنّ عدد النساء والأطفال من النازحين، لا يقل عن 55 في المئة منهم، وهؤلاء لا مشكلة أمنية لعودتهم، فلا ملاحقة في حقهم ولا تجنيد عسكرياً إلزاميّاً، وبالتالي هذا الإحصاء الرسمي ضروري لإبرازه ضمن ورقة لبنان الرسمية أمام الدول الأجنبية للضغط عليها بغية إقامة مجمعات موقتة لهؤلاء النازحين في بلادهم، وبالتالي التخفيف من عدد النازحين الموجودين في لبنان. كذلك، فإنّ 43 في المئة من النازحين الموجودين في لبنان ليسوا من المناطق القريبة منه، بل من المناطق الأبعد والخاضعة للتحالف الدولي وبالتالي لا حائل أمام عودتهم.

وإذ يشير عاملون على ملف النزوح إلى أنّ المبادرة الروسية هي المبادرة الجدّية الوحيدة لأنّ الروس هم الأقدر على التنفيذ، إلّا أنّ هناك نزاعاً أميركيّاً ـ روسيّاً على التسوية السياسية وعلى تمويل إعادة الإعمار، يرون أنّ على لبنان، أمام هذا الواقع، العمل على مجموعة حلول جزئية في هذا الملف وأن يكون هو المبادر لا المُتلقي.