في العام الثامن من الهجرة، وقعت "غزوة مؤتة"، وكانت أولى المعارك بين المسلمين والبيزنطيين، وقُتل فيها عددٌ من كبار الصحابة، كان جعفر بن أبي طالب، ابن عم الرسول، في مقدمتهم.
 
لفتت شخصية جعفر انتباه مؤرخي الإسلام، فاهتموا بذكر بعض تفاصيل سيرته، وكذلك لاقت اهتماماً كبيراً في الحيّز الشيعي، وفي الوقت نفسه، استطاعت أن تُلقي بظلالها على المخيّلة الصوفية، كما أحدثت تأثيراً كبيراً في الأحداث السياسية التي وقعت في القرون الأولى.
في المصادر السنّية... صحابي جليل
وردت سيرة جعفر في العديد من المصادر التاريخية السنّية، مثل "الطبقات الكبرى" لابن سعد، و"تاريخ الرسل والملوك" للطبري، و"الكامل في التاريخ" لابن الأثير.
 
تُصوّر تلك المصادر جعفر على أنه واحدٌ من الصحابة السبّاقين إلى اعتناق الإسلام، والذين لعبوا أدواراً مشهودة ومؤثرة في حياة الرسول.
ومن الملاحظ أن المصادر التاريخية الإسلامية لا تتعرّض كثيراً لشخصية جعفر في السنين الأولى من الدعوة، ولكنها تبدأ في الاهتمام بأخباره مع هجرته إلى الحبشة، في العام الخامس من البعثة.
 
ظلّ جعفر في الحبشة لفترة طويلة، ورجع منها إلى المدينة في العام السابع للهجرة النبوية، وتزامن رجوعه مع انتصار المسلمين في خيبر. وتتحدث المصادر التاريخية عن شدة فرح الرسول برجوع ابن عمه، حتى أنه قال لمّا قابله: "ما أدري بأيهما أنا أفرح، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر".
 
في العام الثامن من الهجرة، انضمّ جعفر إلى الجيش الإسلامي المتوجّه إلى حدود الشام، وتُجمع المصادر السنّية على أن الرسول عيّنه أميراً ثانياً على الجيش بعد زيد بن حارثة، وتذكر الروايات المتواترة أنه تسلم الراية بعد مقتل زيد، فقاتل قتالاً شديداً، حتى قُتل في نهاية المطاف.
 
في المصادر الشيعية... الأمير الأول لجيش مؤتة
رغم اتفاق المصادر الشيعية مع مثيلاتها السنّية على معظم المعلومات الواردة عن جعفر، إلا أنها تختلف عنها في نقاط رئيسية وجوهرية، ينتج عنها تصوير شخصيته بشكل مختلف إلى حد بعيد.
 
تذكر الروايات الشيعية أن جعفراً كان من أول الناس إسلاماً بعد علي بن أبي طالب. ويورد ابن شهر آشوب في "مناقب آل أبي طالب" رواية جاء فيها أن أبا طالب وجعفر مرّا على الرسول وهو يصلي، وكان علي على يمينه، فقال أبو طالب لجعفر: "صل جناح ابن عمك، وصل عن يساره"، وهي رواية تتسق مع الاعتقاد الشيعي بإسلام أبي طالب، وتُصور أسرته على أنها أسرة مسلمة منذ اليوم الأول للبعثة.
 
ولأن جعفراً هو الأخ الشقيق لعلي، بالغت المصادر الشيعية في تعظيمه، بل توقّع بعضها تأثيراً عظيماً له لو طالت حياته، ومن ذلك ما ورد في كتاب "الدرجات الرفيعة" لعلي ابن معصوم من أن الإمام محمد الباقر كان يروي عن علي بن أبي طالب قوله: "والله، لو كان حمزة وجعفر حيين، ما طمع فيها (الخلافة) أبو بكر، ولكن أُبتليت بجلفين، عقيل والعباس".
 
ولما كان جعفر في العقل الشيعي يُعَدّ من آل بيت الرسول المشهود لهم بالتنزيه والفضل، فقد رفض معظم علماء الشيعة القول إن الرسول قدّم عليه زيد بن حارثة في إمارة جيش المسلمين في مؤتة، وذهب العديد منهم، من أمثال اليعقوبي في تاريخه، وأبو جعفر الطوسي في "تلخيص الشافي" وابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة"، إلى أنه كان الأمير الأول للجيش.
 
ويذكر المحقق الشيعي جعفر مرتضى العاملي في إحدى مقالاته، أن السبب في اتفاق معظم المصادر السنّية على تقدّم زيد على جعفر في قيادة جيش مؤتة، هو "ببساطة أن ثمة يداً تحاول أن تشوّه الحقيقة وتتجنى على التاريخ، ولعل ذنب جعفر الوحيد هو أنه أخو علي عليه السلام".
 
أمير المسلمين في الحبشة والمرشد الروحي للنجاشي
تُعتبر الفترة التي قضاها جعفر بن أبي طالب في الحبشة من أهم الفترات في حياته، إذ حازت شخصيته على نصيب وافر من التركيز والاهتمام في المصادر التاريخية التي تطرقت إلى تلك الحقبة.
 
تتفق الروايات التاريخية السنّية والشيعية على أن جعفراً كان واحداً من أبرز المسلمين في الحبشة، كما تتفق على أنه كان المتحدث باسم المهاجرين أمام النجاشي، عندما أرسلت قريش إليه عمرو بن العاص في محاولة لاستعادة المسلمين الذين هاجروا.
 
ولكنّ الروايات الشيعية، ومنها ما يذكره الطبرسي في كتابه "إعلام الورى"، تشير إلى أن إمارة جعفر للمهاجرين حُدّدت بمعرفة الرسول نفسه، وأنه لم يجرِ اختياره من المسلمين، وهو الأمر الذي يتوافق ويتماشى مع الرؤية الشيعية التقليدية التي تميل إلى كون الإمامة تجري بالنص والتعيين لا بالشورى واختيار جموع المسلمين.
 
وتعطي السردية الشيعية لجعفر مكانة مهمة، بزعمها إسلام النجاشي على يديه، وهو الأمر الذي ذكره الطبرسي في كتابه. كما ورد في بعض المصادر السنّية، ومنها ابن كثير في "البداية والنهاية"، أن النجاشي أرسل إلى الرسول كتاباً ورد فيه: "وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين".
 
شخصية جعفر في الجدل المذهبي
يمكن أن نلاحظ التأثير السياسي الكبير الذي لعبته شخصية جعفر في معرض المنافسات السياسية في القرون الأولى، عندما جرى الربط بينه وبين شخصية العباس بن عبد المطلب في مواقف كثيرة، ما يعكس حقيقة الصراعات التي لطالما نشبت بين أبناء العباس وأبناء أبي طالب.
 
أولى تلك المواقف ما ذكره ابن إسحق في "السيرة النبوية" من أن العباس كفل جعفراً في صغره، عندما تعرّض أبو طالب لعسرة، وذلك في نفس الوقت الذي قام فيه الرسول بكفالة علي.
 
هذه الرواية لا يوافق عليها الشيعة على الإطلاق، إذ يعتقد الكثيرون من الباحثين الشيعة أنها نُسجت بهدف اختزال مسألة كفالة الرسول لعلي على خاطئ، بحيث تضيع فضيلة علي وخصوصيته، حسبما يذكر جعفر العاملي في كتابه "الصحيح من سيرة الإمام علي"، وبهدف إظهار اليد البيضاء للعباس على جعفر، وهو الأمر الذي استفاد منه العباسيون، في سياق صراعهم السياسي مع أبناء عمومتهم من الطالبيين.
وهناك خلاف بين المصادر السنّية والشيعية على نسبة صلاة التسابيح للعباس أو لجعفر. فبحسب سنن أبي داوود، علّم الرسول صلاة التسابيح، وهي صلاة مكوّنة من أربع ركعات وتتكرر فيها ألفاظ التسبيح 300 مرة، لعمه العباس، وأمره بأدائها، في حين أن مصادراً شيعية، مثل "زاد المعاد" للمجلسي، تذكر أن الرسول علّم تلك الصلاة لجعفر، بعدما وصل إلى المدينة.
 
ثالث الأمور التي ربطت بين جعفر والعباس ما تواتر في بعض كتب الفرق والمذاهب، مثل "الفصل في الأهواء والملل والنحل" لابن حزم الأندلسي، من أنه لما حانت ساعة احتضار أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وكان إماماً عند فرقة الكيسانية الشيعية، حضر إليه كل من محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومعاوية بن عبد الله بن جعفر، فعهد بالإمامة للأول، لكنّ معاوية ادّعى إمامته، وتبعه في ذلك ابنه عبد الله، فخرج ثائراً على الأمويين، وظل مستمراً في ثورته في بلاد فارس، حتى هُزم في النهاية وقُتل على يد الداعية العباسي أبي مسلم الخراساني.
 
ضريح جعفر بن أبي طالب في المزار الجنوبي في الأردن
هذا التنافس السياسي المحتدم الذي جمع بين سليل البيت الجعفري من جهة وأبناء البيت العباسي من جهة أخرى، ربما هو كفيل بتفسير حالة الربط المتكرر بين شخصيتي جعفر والعباس، كما أنه يفسر كل ما نُسب لأتباع عبد الله بن معاوية، الذين عرفتهم المصادر السنّية باسم فرقة الجناحية، من أقوال واعتقادات شركية وكفرية، استهدفت بالمقام الأول تأييد البيت العباسي الحاكم وإعلان شرعيته الدينية والسياسية.
 
جعفر في المُخيّلة الصوفية... ذو الجناحين
من الأمور التي عُرفت عن جعفر اهتمامه الشديد بالفقراء والضعفاء، حتى سماه الرسول بـ"أبي المساكين". ولما كان كثيرون من هؤلاء الفقراء من "أهل الصُفة"، الذين اعتاد الصوفية على الانتساب إليهم، حظي جعفر بمكانة صوفية معتبرة.
 
يذكر البخاري في صحيحه أن أبا هريرة، وكان واحداً من أعلام أهل الصفة، ذكر أن جعفراً اعتاد المرور بالفقراء الجوعى فيصحبهم إلى بيته، ويقدّم لهم الطعام، وإنْ لم يجد طعاماً يحضر لهم قصعة سمن أو عسل، ويكسرها لهم ليلعقوا ما بقي فيها.
 
أيضاً، فإن واحدة من التأثيرات المهمة لجعفر في التقليد الصوفي هي أن الصوفية استدلوا بحجله أمام الرسول ذات مرة لما قال له "أشبهت خلقي وخُلقي"، على جواز الرقص في مجالس الذكر، وقالت ذلك جماعة من مشاهير العلماء من أمثال السيوطي، وابن حجر الهيثمي.
 
في سياق آخر، نسبت الكثير من الكتب الصوفية إلي جعفر المشاركة في بعض المعجزات النبوية، ومن ذلك ما ذكره إسماعيل حقي الخلوتي البروسوي في كتابه "روح البيان"، من أن جعفراً كان مع الرسول في الطريق ذات يوم، واشتد عليه العطش، وكان بجانبه جبل، فقال له الرسول "بلّغ مني السلام إلى هذا الجبل، وقل له أن يسقيك إن كان فيه ماء"، فذهب جعفر إلى الجبل وسلم عليه وأخبره بما قاله الرسول، فقال الجبل "بلّغ سلامي إلى رسول الله وقل له منذ سمعت قوله تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، بكيت لخوف أن أكون من الحجارة التي هي وقود النار، بحيث لم يبقَ فيّ ماء".
 
ومن المسائل الروحانية الغيبية المرتبطة بسيرة جعفر وصفه بـ"ذي الجناحين". يذكر الذهبي أنه لما قُطعت ذراعا جعفر في غزوة مؤتة، أخبر الرسول أصحابه أن الله أبدلهما بجناحين يطير بهما في الجنة، ومن هنا عُرف بـ"جعفر الطيار".
 
حظي هذا اللقب بتأويلات متباينة في الثقافة الإسلامية، فمعظم العلماء حملوه على معناه الظاهر الصريح، واعتبروا أن الجناحين المذكورين يشبهان جناحي الطائر، وقال بعضهم مثل البيهقي، في "دلائل النبوة"، إنهما جناحان من الياقوت.
 
وفي المقابل، ذهب بعض العلماء إلى التأويل، ومنهم السهيلي في "الروض الأنف"، إذ قال: "له جناحان، ليس كما يسبق إلى الفهم كجناحي الطائر وريشه، لأن الصورة الآدمية أشرف الصور كلها، فالمراد بالجناحين: صفة ملكية وقوة روحانية".
 
وفي السياق نفسه، مال كثيرون من علماء الشيعة نحو تفسير هذا الوصف على نحو مجازي، وقالوا إنه كناية عن "القوة، والإلهام والمستوى المعرفي".