منذ ما قبل الانتخابات النيابية، انعطف حزب الله نحو الاهتمام في الشأن الداخلي اللبناني، الاجتماعي والاقتصادي والإداري. خاض الحزب المعركة الانتخابية تحت عنوان الإنماء ومحاربة الفساد. وكان حينها قد أبلغ الجميع، بوضوح، أنه لن يبقى على اعتزاله التفاصيل اليومية للشؤون العامة، من إدارة المرافق إلى التعيينات الحكومية والمشاريع التنموية وصولاً إلى السياسة الاقتصادية. وقد أكد أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير لمناسبة ذكرى تأسيس "هيئة دعم المقاومة"، بأن شعار محاربة الفساد قد رفعه الحزب قبل الانتخابات النيابية، رافضاً أن يوضع توقيت هذه الحملة بالتزامن مع اشتداد الضغط المالي، الذي يتعرض له الحزب من قبل الولايات المتحدة الأميركية.

ثنائية الحريري - باسيل 
يسجّل لحزب الله أنه المنتصر الأكبر منذ إنجاز التسوية الرئاسية. لكن جلّ الإشكالات التي عاناها الحزب مع تيار المستقبل أو حليفه التيار الوطني الحرّ، كانت متصلة بتخوفه وتوجسه من مبدأ إحياء الثنائية السنية - المارونية، بين الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل. في إحدى خطبه أعلن نصر الله بشكل علني رفضه، كما "رفض كل اللبنانيين" لإحياء منطق الثنائيات، وأن لا أحد في لبنان سيسمح بإلغاء أي طرف آخر. لم يكن دافع نصر الله وحزب الله لإطلاق مثل هذا الموقف، مذهبياً أو سياسياً. بل له أبعاد أخرى. أهمها عدم رضى الحزب عن منطق حصر "الاقتصاد" بيد ثنائية الحريري - باسيل، مقابل أن يحتفظ الحزب بالقرار السياسي والاستراتيجي في البلد.

في حقبة مفاوضات تشكيل الحكومة، وقع التباس بارز بين نصر الله وباسيل في المواقف الخطابية، تحديداً عندما اعتبر باسيل أن ما يعرقل تشكيل الحكومة يومها (بسبب عقدة اللقاء التشاوري السنّي)، هو إشكال سنّي شيعي لا علاقة للمسيحيين به. أثار هذا الموقف حفيظة حزب الله، وكان اللقاء عاصفاً بين نصر الله وباسيل. يومها لم يكن حزب الله يعلّق على التفاصيل الصغيرة، ويعلم أن حشره في خانة الصراع السنّي الشيعي، سيضرب أي محاولة من قبله لمحاربة الفساد، أو للدخول إلى الميدان الاقتصادي والمالي في لبنان. إذ أن هناك ثابتة في تاريخ لبنان الحديث بأن الاقتصاد "حصة مارونية - سنية"، وأي صراع سنّي شيعي في السياسة سينعكس تنافساً على الاقتصاد، أو العكس.

لم يكن حزب الله وحده منزعجاً من ثنائية الحريري - باسيل، فالرئيس نبيه برّي عبّر عن انزعاجه أكثر من مرّة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بملفات اقتصادية كبيرة، استُهدف فيها برّي، كما استُهدف وليد جنبلاط والقوات اللبنانية وسليمان فرنجية. تنطلق هذه الخلافات مما يعتبره هؤلاء محاولات تطويق وتهميش في الوظائف والتعيينات والخطط والمشاريع من قبل الحريري - باسيل. وبرزت أكبر الإشكالات بعيد تلزيمات خزانات النفط في طرابلس ومعمل دير عمار، على نحو تعرضت ثنائية الحريري - باسيل إلى هجمات وانتقادات متعددة وحادة من قبل مختلف الأفرقاء.

المساعدات الخارجية
يبقى حزب الله هو الطرف الأقوى بين كل هذه الأطراف المتنافسة والمتصارعة. الضعف الوحيد الذي يعانيه الحزب حالياً، هو المسألة المالية والاقتصادية بفعل العقوبات. وهذا ما أكده نصر الله. إذ اعتبر أن هذه العقوبات تؤثر على الحزب سلباً، ولا بد من توقّع المزيد منها. وبالتالي، ما يسعى إليه الحزب في معركة مكافحة الفساد واضح. ووفق ما أكد نصر الله، فإن الغاية من ذلك هو الحفاظ على الدولة من السقوط والإنهيار، بفعل الهدر والفساد، وبغية الحصول على المساعدات الخارجية ربما. ولكن هذه المرّة، يطمح أن لا تكون المساعدات الخارجية محصورة بالآخرين دون الحزب وبيئته. وهنا لا بد من التذكير بكلام للنائب حسن فضل الله، حول المساعدات التي تدفقت بعد حرب تموز لإعمار الجنوب. إذ يقول فضل الله: "إنهم سئلوا من قبل بعض السفراء الأجانب والعرب، حول سبب عدم ذكر المساعدات التي تصلهم، أو تقدم لهم، من دولهم، فأجاب بأن الحزب لا تصله هذه المساعدات".

وهذا الكلام يجب ربطه بكلام آخر لمسؤولين بحزب الله، بأن المساعدات تأتي لأطراف أو لمسؤولين وليس لمؤسسات الدولة. وبالتالي، لا يكون هناك عدل في توزيعها أو إيصالها. يقود هذا الكلام إلى خلاصة أساسية بأن الحزب يريد لهذه المساعدات أن تأتي إلى مؤسسات الدولة بشكل واضح، ما يمنح فرصة الاستفادة منها من قبل كل "المجتمعات" اللبنانية، خصوصاً أن الحزب لن يكون قادراً على الاستفادة منها بشكل مباشر بسبب العقوبات. لكن، على الأقل، إذا ما وصلت عن طريق المؤسسات الرسمية، فلا بد أن تطال شرائح مجتمعية واسعة محسوبة عليه. وهكذا يكون بالإمكان التعويض عن تقصير الحزب وضعف قدراته الرعائية بفعل العقوبات.

"مثالثة" اقتصادية!
هذه الحملة، تدفع بعض الأطراف إلى اتهام حزب الله باستخدام شعار "مكافحة الفساد" لتطويع خصومه أو حتى حلفائه. وذلك، بغية إجبارهم على تحقيق ما يريده، في القضايا المالية والاقتصادية، للتعويض عن تأثير العقوبات. لكن، تبقى هذه النظرة يعتريها القصور. إذ أن الحزب لم ينتهج هذا الخيار السياسي الجديد من منطلق تفصيلي أو تكتيكي. غايته أبعد من ذلك بكثير، ومعها ستتغير معادلة "الاقتصاد للحريري وباسيل.. والأمن والسياسة للحزب". من الآن، حزب الله سيكون شريكاً في الاقتصاد، كما هو مقرر في السياسة والمعادلات الخارجية.