مقاربتان خاطئتان في التعامل مع توجّه «حزب الله» الجديد في مكافحة الفساد: فلا المسارعة إلى تأييد هذا التوجّه مستحسنة، كون المعركة يُمكن ان تكون وهميّة وشكلية، ولا المسارعة الى معارضته في محلّها، كونه لا يمكن الحكم على النيّات ولا معارضة معركة ضد الفساد، بل يجب مراقبة مواقفه وخطواته عن كسب لكي يُبنى على الشيء مقتضاه.
 

عندما رفعت «القوات اللبنانية» عنوان إدارة الدولة كأولوية مع دخولها الوازن الى الحكومة على أثر التسوية الرئاسية، قرّرت سلفاً التعامل مع القوى السياسية على اختلافها على قاعدة استبعاد الصداقة المُسبَقة والخصومة المُسبقة والتقاطع مع كل من يتقاطع معها في هذا العنوان.

ونجاح «القوات» في ترجمة هذه السياسة مردّه إلى غياب الغرضية الذاتية لديها، ما يجعلها قادرة على الذهاب الى النهاية في هذا التوجّه من دون الوقوف امام اي اعتبار. وفضلّت ان تواجه بشراسة كل ما يقع أمامها من دون العودة الى الماضي، ليس على قاعدة «عفا الله عمّا مضى»، إنما من منطلق انّ هذا الماضي يزاوج بين وصاية سورية، وبين صعوبة الاستثناء.

كان في استطاعة «حزب الله» ان يعتمد التوجّه نفسه ويقول، انّ ما بين حاجة الناس التي لمسها في الانتخابات، وبين الخطر الوجودي على الدولة، قرّر ان يرفع عنوان مكافحة الفساد الى مرتبة الجهاد المقدس، ومن دون العودة الى الماضي الذي كان شريكاً فيه، ولو بشكل غير مباشر، خلافاً لـ«القوات» التي كانت في المُعتقل، فيما هو حليف للنظام السوري والقوى السياسية التي أدارت الحياة الوطنية، لأنّ الاستنسابية في هذا الملف تنعكس على صدقية توجّهه المستجد، فضلاً عن انّ للحزب غرضية ثمينة وهي سلاحه الذي يدفعه الى غض النظر عن أمور كثيرة بغية الحفاظ على تأييد حلفائه هذا السلاح.

فهل يمكن ان يجازف مثلاً بخسارة حليف فاسد يوفّر له التغطية لسلاحه؟ وهل يمكن ان يبدّي معركة الفساد على ضمان استمرارية السلاح؟ وهل يمكن ان يفتح معركة فساد في مواجهة حليف أم أن معاركه ستكون انتقائية لاعتباراته السياسية؟

ولكن، بمعزل عن ذلك، قرّر الحزب الدخول في معركة مكافحة الفساد من باب حسابات الدولة المالية منذ العام 1993. ويقول إّنه لا يستهدف أحداً. مبرراً، انّ اكثر من رئيس حكومة ووزير مال بتوجّهات مختلفة تعاقبوا على المسؤولية، فلا يجب لطرف محدد ان يتحسّس، وان الحكم في يد القضاء، واضعاً المواجهة في مصاف المواجهة مع إسرائيل والتكفيريين.

وإذا كان من الخطأ الحكم على هذه المعركة سلفاً، لأنّ آفة الفساد باتت تهدّد بقاء الدولة جدياً، فإنّ من الخطأ أيضاً النظر إليها من زاوية واحدة بأنّ هدفها التشفي والانتقام، بل يجب مقاربتها من زوايا مختلفة:

ـ الزاوية الأولى، شكّل دور «حزب الله» منذ المحطة الوطنية الجديدة عام 2005 دوراً خلافياً حاداً بين اللبنانيين، في ظل فريق مؤيّد لدوره وسلاحه وفريق رافض بشدة. وتراجع حدة الخلاف في هذا الموضوع لا يعني انتفاء هذا الخلاف الذي يندرج في الخانة الاستراتيجية، وبالتالي الحزب في حاجة الى دور لا يتعلق بسلاحه ويكون عابراً للانقسامات التقليدية، ومعركة الفساد تشكل هذا العنوان.

 
 

ـ الزاوية الثانية، يعرف «حزب الله» تمام المعرفة، انّ أقصى ما يمكن تحقيقه شعبياً ونيابياً حققه في الانتخابات الأخيرة، بل وضعه مرشح للتراجع بفعل الظروف الخارجية المتصلة بالعقوبات عليه وعلى طهران، كذلك نتيجة الظروف الداخلية المتصلة بحاجة بيئته الى الأمور الحياتية وليس فقط للتعبئة الأيديولوجية. وبالتالي يعتبر من دون شك، انّ دخوله في معركة الفساد يضعه في مقدمة المشهد السياسي اللبناني ويجعله في موقع شعبي متقدّم.

ـ الزاوية الثالثة، يتطلع «حزب الله» الى حكم لبنان غير الممكن بواسطة السلاح والدور الخارجي، ولو كان قادراً لما قصّر، وبالتالي هو في حاجة الى مادة لبنانية جامعة يستطيع من خلالها ان يكوِّن أكثرية لم يتمكن من تأمينها بعنوان السلاح.

ـ الزاوية الرابعة، كلام السيد نصرالله عن خشية حقيقية من انهيار لبنان هو كلام جدّي وحقيقي. وأما خشيته، فمردها الى النتائج التي يمكن ان تترتب على اي انهيار، وفي طليعتها وضع المجتمع الدولي يده على لبنان من زاوية إنقاذ الوضع الاقتصادي، واي تدخّل دولي يصبح موضع ترحيب شعبي في لحظة انهيار كارثية. والحزب يعتبر ضمناً أنّ أي سيناريو من هذا النوع يرمي الى تطويقه والتخلص من دوره وسلاحه.

ـ الزاوية الخامسة، يواجه «حزب الله» حصاراً عربياً ودولياً كبيراً، ويظنّ ان خرق هذا الحصار يكون عن طريق مخاطبة المجتمع الدولي باللغة التي يحبها ويريدها، وهي مكافحة الفساد، في اللحظة نفسها التي يشرف فيها هذا المجتمع على تنفيذ مقررات «سيدر»، ولا يثق بالمقدار المطلوب في أداء بعض القوى السياسية، وبالتالي يعتبر انّ دوره المستجد يمكن ان يبدّل في النظرة الدولية حياله أو يخفف من حِدّتها.

ـ الزاوية السادسة، رفع «حزب الله» مواجهة الفساد إلى مرتبة مواجهة إسرائيل يمكن وضعه في خانة تعبئة بيئة الحزب في اتجاه جديد، من التعبئة حول السلاح الى التعبئة حول مكافحة الفساد.

وخلفية هذه التعبئة، التي استخدم فيها أدبيات لبنانية، قد يكون مردّها الى شعوره انّ دوره الخارجي شارف على الانتهاء ويريد استبداله بدور جديد يغطي على دوره السابق، ويستبعد من خلال حالة إحباط محتملة لدى جمهوره، فلجأ الى خطاب جديد بأبعاد لبنانية بغية توجيه اهتمامات جمهوره الى الدولة وكل ما يتصل بهذه الدولة، خصوصاً انّ الحزب في حاجة الى معارك دائمة، وغياب المعارك الخارجية في ظل عدم قدرته على خوضها دفعه في اتجاه معركة داخلية بعنوان غير انقسامي.

ـ الزاوية السابعة، يريد «حزب الله» ان يحرّف الأنظار عن سلاحه ويسلّط الضوء على دوره في أنه كان في الصفوف الأمامية في مواجهة الإسرائيليين ومن ثم التكفيريين واليوم الفساد، وان أحداً لا يستطيع المزايدة على لبنانيته، ولكن هدفه الأساس من وراء هذه المعركة تبرير احتفاظه بسلاحه عن طريق ان وهج السلاح أعاد الانتظام الى الدولة وإداراتها.

من المؤكّد انّ «حزب الله» دخل في مرحلة جديدة. و«حزب الله» اليوم لا يشبه «حزب الله» في الأمس، ومن الخطأ التعامل معه بمواقف مسبقة تتصل بالخلاف الاستراتيجي، الذي لم ولن يتبدّل قبل تسليمه سلاحه الى الدولة اللبنانية. ولكن، لا بدّ من متابعة توجّهه المستجد وتشجيعه على المضي قدماً في تحويل أولويات بيئته من أولويات عابرة للحدود بمنطق الثورة الى أولويات عابرة للطوائف والمناطق بمنطق الدولة اللبنانية وتحت سقفها.