مسألة التوافق حول مرشّح واحد يخوض الانتخابات الرئاسية ويكون منافسا عنيدا لحركة النهضة باتت تمثّل في كل مرة عقبة أمام تطور الأحزاب الكبرى اليسارية المثقلة بأمراض الزعامة.
 
تستعد تونس لإجراء ثالث محطاتها الانتخابية التشريعية (البرلمانية) والرئاسية، منذ اندلاع ثورة يناير 2011، وذلك في شهري أكتوبر ونوفمبر القادمين وسط أجواء مشحونة تشق صفوف الأحزاب اليسارية والتقدمية.
 
رغم أن الأحزاب الكبرى اليسارية أو المنحدرة من العائلة الديمقراطية الاجتماعية التي تمتلك رصيدا تاريخيا ونضاليا أصبح لها من الخبرة ما يكفيها للمنافسة في الاستحقاقات الانتخابية، إلا أن مسألة التوافق حول مرشّح واحد يخوض الانتخابات الرئاسية ويكون منافسا عنيدا لحركة النهضة الإسلامية باتت تمثّل في كل مرة عقبة أمام تطور هذه الأحزاب المثقلة بأمراض الزعامة التي تلقي بظلالها دائما عند أول اختبار يخص ممارستها للديمقراطية على أرض الواقع.
 
قبيل إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس الأربعاء عن تاريخين ثابتين لإجراء الانتخابات التشريعية في 6 أكتوبر 2019 والرئاسية في 10 نوفمبر 2019، شقّت الخلافات حول تقديم المرشّحين  للانتخابات الرئاسية صفوف أهم الأحزاب اليسارية والتقدمية.
 
وتُرجمت أولى هذه المعارك عبر ترشيح حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (مؤسسه شكري بلعيد الذي تم اغتياله في عام 2013) النائب في البرلمان منجي الرحوي لخوض الاستحقاق الانتخابي بدل الناطق الرسمي للجبهة الشعبية حمة الهمامي (زعيم حزب العمال  التونسي).
 
وترشّح حمة الهمامي في الانتخابات الرئاسية عام 2014 التي فاز بها الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي وحل حمة الهمامي في المرتبة الثالثة خلف الرئيس السابق المنصف المرزوقي، إلا أن الهمامي، وفق عدة أطراف سياسية منخرطة في الجبهة الشعبية (تجمع أحزاب يسارية وقومية)، لم يستطع تطوير خطابه أو البناء على الرصيد الذي راكمه من انتخابات 2014 بعدما صوّت له قرابة 270 ألف ناخب.
 
والصراع الجديد – القديم داخل الأحزاب اليسارية يستدعي الخوض في عدة مقاربات أخرى تتعلق بالأحزاب الديمقراطية الليبرالية أو الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية خاصة وأنها تدرك في هذه المرحلة بالذات أن حظوظ الفوز بالرئاسة ضئيلة وأن منصب الرئاسة بدوره أصبحت له صلاحيات ضيقّة مقارنة بالرئاسة في عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة ( 1957 1987-) وزين العابدين بن علي (-1987 2011).
 
وتقتصر صلاحيات رئيس البلاد، وفق دستور الجمهورية الثانية، على بعض النفوذ في ما يتعلّق بطرح المبادرات التشريعية أو ضبط السياسات الخارجية والإشراف على السياسات الدفاعية للبلاد، إلا أن الأحزاب المذكورة لم تستطع استيعاب دروس الماضي وإخفاقاتها المتكررة مقارنة بحركة النهضة التي لم تقدّم منذ 2011 أي مرشح لها في الرئاسية، حيث اكتفت فقط بمساندة المنصف المرزوقي عام 2014 لأنها تعلم جيّدا أن السيطرة على البرلمان وعلى رئاسة الحكومة هي الطريقة المثلى للحكم في البلاد.

جبهة غير متناسقة

بالنسبة للأحزاب اليسارية، التي تتصدرها الجبهة الشعبية، فقد أثبتت كل المحطات أنها لم تتخلص بعد من إرثها الخلافي القديم المتعلق أساسا بفوارق بسيطة في الخط الأيديولوجي، وخير دليل على ذلك ما تعيش على وقعه من مناكفات تهدّد بتفككها إثر ترشيح حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد للمنجي الرحوي بدل الناطق الرسمي للجبهة حمة الهمامي.

وأثارت خطوة ترشيح الرحوي استياء مختلف الأحزاب المكونة للجبهة الشعبية خاصة أنه لم يتم التشاور في الأمر داخل المجلس المركزي قبل الإعلان عن الترشيح في بيان حزبي رأى فيه الكثيرون أنه ربما يكون آخر إسفين يُدق في نعش الجبهة الشعبية التي ظلت تراوح مكانها منذ تأسيسها عام 2012 دون أن تتطور أو تقدّم بدائل جديدة لمنظومات الحكم المتعاقبة في تونس.

ويقول زهير حمدي، القيادي في الجبهة الشعبية والأمين العام لحزب التيار الشعبي (حزب قومي)، إنه من حق حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد أن يرشّح منجي الرحوي للمنافسة على منصب الرئاسة، خاصة أن الجبهة الشعبية منفتحة على كل الخيارات لكن بعد التشاور صلب المجلس المركزي.

ويؤكّد حمدي في تصريح لـ”العرب”، أن ما أزعج قيادات الجبهة الشعبية أن الإعلان عن ترشيح الرحوي جاء بصفة مفاجئة وفردية ولم يتم التنسيق أو التشاور فيه بين مختلف مكوناتها، مضيفا أن المجلس المركزي سيناقش المسألة وإن تم التصويت لفائدة الرحوي فستسانده كل مكونات الجبهة الشعبية.

لكنّ مصادر مطلعة أكدت لـ”العرب” أنه باستثناء حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد فإن قيادات الأحزاب المنتمية للجبهة الشعبية لن تزكي ترشيح الرحوي لخوض الانتخابات الرئاسية لعدة أسباب من أهمها أن الرجل مقاطع لكل الاجتماعات الداخلية للجبهة منذ ما يقارب العام تقريبا.وتؤكّد المصادر أن الرحوي ليس منضبطا لقرارات الجبهة عند التصويت في البرلمان على

أي قانون ولذلك يصعب التوافق حول شخصه، وهو ما ينذر وفق المتابعين ببداية تفكك الجبهة الشعبية لأنه يرجّح أن يعلن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد الانسحاب منها.

وفي محاولة للتخفيف من الأزمة علق زياد لخضر، الأمين العام لحزب الديمقراطيين الموحّد، على المسألة بقوله “نحن اليوم نريد أن نقول لأنفسنا ولشركائنا وللساحة السياسية، إنه يمكن أن تكون داخل الجبهة الشعبية تقديرات مختلفة ويمكن أن يتنافس فيها المناضلون على قاعدة قدراتهم وكفاءتهم وما يطرحونه من خيارات”.

وأكد أن ترشيح الرحوي يسمح للجبهة بأن تكون ورشة للتفكير وللنقاش العميق دفاعا على تونس وشعبها ومطالب ثورته، مشيرا إلى أن حمة الهمامي مناضل له تاريخه، لكن من حق كل الأعضاء في الجبهة التداول على المواقع والمناصب.

تراجع الجبهة

في ما يخص تشبث الجبهة بالترشح لمنصب الرئاسة رغم حظوظها الضعيفة، خاصة أن نتائج الانتخابات البلدية في موفى عام 2018 أثبتت أن خزانها الانتخابي قد تراجع بشكل لافت لفائدة أحزاب معارضة أخرى كالتيار الديمقراطي الذي يقوده السياسي محمد عبو، يقول زهير حمدي “أعتقد أن منصب الرئاسة لم يعد يعني الكثير بعد ثورة 2011 ولذلك وجب علينا التركيز على التشريعية والانفتاح على مشاغل الشعب لأن البرلمان ظلّ منذ الثورة حبيس سيطرة حركة النهضة ما أهّلها لحكم البلاد”.

ويستدل البعض لدى تأكيدهم أن الأحزاب اليسارية والديمقراطية لا تتقن سوى الاصطدام بالحائط برهانها على انتخابات رئاسية منقوصة الصلاحيات، بما حصل مؤخرا من توتر بين الرئيس الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، حيث تمكّن الأخير بحكم صلاحياته والتوازنات السياسية التي ضمّها لمصلحته كحركة النهضة من ضمان البقاء في السلطة رغم معارضة رئيس البلاد وحزب نداء تونس.

ويقول جلول عزونة، الكاتب والباحث والقيادي بالجبهة الشعبية، إن ما يثير قياديي الجبهة ليس ترشيح حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد لأحد قياداته لخوض الانتخابات بل يتعلق بكيفية الترشيح عبر بيان حزبي لم تتم مناقشته داخل أسوار الجبهة الشعبية بمختلف مكوناتها.

ويصف عزونة في تصريح لـ”العرب” هذه الخطوة بالاستفزازية، لكنه يؤكّد أن “كل الأطراف المنضوية في الجبهة ستحاول الحفاظ على هذا الكيان وديمومته لما قدّمه من تعديل في المشهد السياسي الذي تحكمه حركة النهضة وأحزاب من المنظومة القديمة”.

ويقر جلول عزونة بأن الجدل الدائر حول من سيكون مرشح الجبهة في الانتخابات الرئاسية يضرّها أكثر مما ينفعها، لأن الحصيلة الانتخابية السابقة لا تكذب وتؤكّد أن حظوظ الفوز فيها مسألة صعبة في ظل انقسام اليسار التونسي برمته وعدم التفافه حول مرشح واحد وبرنامج سياسي مشترك بسبب إرث خلافي لم يتم تجاوزه إلى الآن.

تشتت العائلة الديمقراطية

الخلافات المزمنة التي لا تفارق اليسار التونسي، تنطبق أيضا على بقية الأحزاب الديمقراطية الليبرالية أو الديمقراطية الاجتماعية أو ما يسمّى في العرف السياسي بالعائلة الوسطية، حيث تشير التطورات التي أعقبت نجاح الرئيس الباجي قائد السبسي في الوصول إلى سدة الحكم إلى أن هذه الأحزاب مثقلة بخلافات أساسها التموقع ومحاولة نيل منصب الرئاسة.

منذ عام 2014، لم تنجح العائلة السياسية الوسطية في تأسيس كيان سياسي مهيكل وقوي ينافس حركة النهضة في الحكم. وكانت أولى بوادر الفشل مع انقسام حزب نداء تونس الذي أسسه قائد السبسي إلى عدة أحزاب تتناحر في ما بينها استعدادا للانتخابات الرئاسية.

آخر حلقة في مسلسل هذه الانشقاقات ترجمها تفكك حزب نداء تونس وتوجّه رئيس الحكومة يوسف الشاهد ومن يناصره لتأسيس حزب جديد “تحيا تونس” يقدّم نفسه على أنه سيكون بديلا للحكم في انتخابات عام 2019.

ورغم أن الشاهد لم يعلن إلى الآن عن تزعمه للحزب الجديد أو نيته خوض الانتخابات الرئاسية ما قد يجعله يستقيل من منصبه لتتشكّل بعده حكومة انتخابات، إلا أن نسق تحركات الحزب يوحي بأنه سيكون لديه مرشّح للانتخابات الرئاسية قد ينافس الباجي قائد السبسي إن أعلن الأخير بدوره عزمه الترشح لولاية ثانية.

وبشأن ارتفاع وتيرة تشرذم الأحزاب الوسطية والديمقراطية، يقول عصام الشابي، الأمين العام للحزب الجمهوري، إن منصب الرئاسة في تونس ورغم التقليل من شأنه دستوريا يبقى مهمّا لكونه معنيا بالأساس بالسياسات الخارجية والدفاع أو تقديم مبادرات تشريعية، لكن لا أعتقد أن أحزاب اليسار أو العائلة الوسطية لا تدرك أنها غير قادرة على المنافسة لنيل الرئاسة.

ويضيف أن كل الأحزاب المتناحرة حول هذا المنصب الهام تعلم أنها لا تملك خزانا انتخابيا يمكنّها من الظفر به بحكم النكسات الانتخابية المتتالية التي تمنى بها هذه الأحزاب. ويرجع الشابي في تصريح لـ”العرب” رغبة جل الأحزاب في تقديم مرشّحين للرئاسة إلى كونه ليس إيمانا منها بقدرتها على الفوز في الانتخابات بل رغبة في التموقع في فترة ما بعد الانتخابات.

ويؤكّد أن أزمة

الأحزاب اليسارية والوسطية التي تعتبر البديل الأنجع لمنظومة الحكم القديمة أو حكم الإسلاميين، تتلخص أساسا في أن مرض الزعامات لم يفارقها أبدا ما جعل تفكيرها ينحصر في ما هو أيديولوجي وليس سياسيا يقدّم بدائل ويتموقع في الضفة الرابحة بحسب قوله.

ويشددّ على أن حزبه مازال يمد يده للجبهة الشعبية والأحزاب التقدمية كالمسار الديمقراطي الاجتماعي أو عدة أحزاب أخرى للنقاش والتوافق حول تأسيس جبهة انتخابية موحّدة تكسر قاعدة الحكم الحالية التي تقودها حركة النهضة الإسلامية. وإلى أن يأتي الموعد الانتخابي المرتقب والحاسم تبقى الطبقة السياسية التونسية رغم كل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية رهينة طموحها في التموقع من جديد صلب المشهد السياسي بتوجيه بوصلتها رغم حدة الأزمات التي تشقها نحو الانتخابات الرئاسية متناسية أن أساس الديمقراطية التونسية محتكم بالأساس على الانتخابات التشريعية التي تمكّن من يفوز بأكثر مقاعد برلمانية من حكم البلاد بفضل ما يمنحه البرلمان من سلطة تكون المحدد الأول لاختيار رئيس الحكومة المتمتع دستوريا بصلاحيات واسعة لا تقارن بصلاحيات رئيس الجمهورية.

وكانت الأحزاب التقدّمية وأيضا اليسارية، وإن لم تدعم بشكل مباشر مرشحا بعينه عبر توجيه ناخبيها لإقصاء المنصف المرزوقي في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية عام 2014، فإنها قد التفّت حول الباجي قائد السبسي. في حين وجّهت حركة النهضة خزانها الانتخابي لدعم المرزوقي ولم تقدم حركة النهضة أي مرشح يمثلها لإدراكها أن من ينتصر في الانتخابات التشريعية هو من سيحكم، ويرجح أن يتكرر هذا المشهد لكن ربما بأسماء أخرى خاصة أن الحركة لم تحسم بعد عودتها للتحالف مع الرئيس قائد السبسي أو مواصلة دعم يوسف الشاهد.