يشهد لبنان بعد تأليف الحكومة حركةً ديبلوماسية لافتة، وهذه مسألة طبيعية بغية التذكير مع الانطلاقة الحكومية الجديدة بالأولويات الدولية حيال لبنان.
 

يكاد لا يمرّ أسبوع من دون زيارة خارجية للبنان، ولكن تتفاوت طبعاً مستويات الزيارات وأهميتها، فيما لا يجب التقليل أيضاً من الزيارات ذات الطابع التقني المتعلقة بمكافحة تمويل الإرهاب وتجفيف مصادر تمويله، أو المتصلة بالبعدين الأمني والتسليحي والترسيمي للحدود البحرية وغيرها من الملفات.

والعلاقة الدولية مع لبنان تراوح بين ما هو ثابت وما هو متحرك، فالسياسة المتحركة تتصل بالمواقف السياسية التي يمكن أن تكون تحذيرية أو ترحيبية تبعاً للوضعية السياسية، ولكن هذه المواقف لا تبدّل في ثبات السياسة الدولية حيال لبنان والتي ما زالت تبدّي الاستقرار السياسي على أيّ اعتبار سياسي آخر انطلاقاً من حرص المجتمع الدولي على عدم تمدّد النزاع السوري إلى لبنان، لأنّ أيَّ تمدّد من هذا النوع سيؤدي إلى مزيد من تعقيد الأزمة في المنطقة وتشعّبها وتصعيب الحلول، خصوصاً أنّ انهيار الاستقرار اللبناني يفتح الباب أمام نزاعات طائفية ومذهبية ودستورية وحدودية مع ارتفاع احتمالات النزاع مع إسرائيل وولادة أزمة نازحين جديدة.

فأكثر ما يخشاه المجتمع الدولي يكمن في إنفجار الساحة اللبنانية نظراً لتداعيات انفجارٍ من هذا النوع وفي أكثر من اتّجاه، ومن هذا المنطلق يجهد في اتجاه الحفاظ على الاستقرار، ولكن ليس أيّ استقرار، لأنّ لبنان في زمن الوصاية السورية كان مستقراً، وبالتالي ثمّة خيط رفيع يفصل بين الحرص على الاستقرار، وبين الحرص على عدم جواز تجديد أيّ وصاية على لبنان.

وتبعاً لذلك تأتي الأولوية الثانية وهي «النأي بالنفس» التي باتت تشكل الكلمة السحرية الثانية بعد الاستقرار، وأما المقصود بها دولياً وعربياً أن ينأى لبنان بنفسه عن إيران، وأن لا يسمح لـ»حزب الله» بجرّه الى سياسات تتعارض مع توجهات المجتمع الدولي عموماً والأميركي خصوصاً.

فالولايات المتحدة التي تخوض مواجهة مفتوحة مع إيران تحت عنوان الحدّ من نفوذها وتغيير دورها لن تسمح بتحويل لبنان ساحة من ساحات طهران، ولكنها في الوقت نفسه تعمل ضمن حدَّين: رفض ترك لبنان لقمة سائغة في فم إيران، ورفض الضغط بما يولِّد الحرب في لبنان، وهذا ما يفسِّر دعمها المتواصل عسكرياً واقتصادياً وديبلوماسياً بغية الحفاظ على التوازن بين الدولة والقوى السياسية الداعمة لهذا الخيار، وبين «حزب الله».

وتدرك واشنطن ثلاث حقائق أساسية: أنّ الضغط الزائد عن اللزوم يحوِّل لبنان مسرحاً للعنف، وأنّ التراخي يفقده استقراره كون الحزب لن يتمكن من وضع اليد عليه إلّا بالقوة، وأنّ حلّ مسألة «حزب الله» تبدأ من طهران لا بيروت.

ومعلوم أنّ مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد أكثر مَن يعرف لبنان وتوازناته ودقة أوضاعه وما يمكن تحقيقه وما لا يمكن تحقيقه، والولايات المتحدة ليست في وارد تحميل البلد أكثر من قدرته على الاحتمال، لأنّ المطلوب دولياً في هذه المرحلة أن يحافظ لبنان على استقراره وهيكل دولته وتقوية هذا الهيكل قدر الإمكان عسكرياً واقتصادياً وشعبياً في انتظار اللحظة المؤاتية التي تتمكّن فيها الدولة من تحمُّل مسؤولياتها كاملة.

ويدرك «حزب الله» في المقابل أنه لا يمكنه أن يبتزّ واشنطن في سياستها التي تزاوج فيها بين الاستقرار وربط النزاع معه، إذ إنّ عدم رغبتها بالحرب في لبنان لا يعني أنها في وارد غضّ النظر عن سيطرته على البلد، الأمر الذي يعرّضه ولبنان إلى حرب شعواء، بل إنّ الحزب مستفيد من الرغبة الدولية بالاستقرار في لبنان، ويحاول من جهته نزع كل الذرائع التي يمكن أن تتحجّج بها تل أبيب لحرب من هذا النوع في لحظة عقوبات وحصار على إيران وسعي لإخراجها والحزب من سوريا.

فالرغبة الدولية بالاستقرار تتقاطع مع رغبة مماثلة لـ»حزب الله» ومن خلفه طهران، وقد تكون المرحلة الحالية أكثر استقراراً من سابقاتها كون الحزب يدرك خطورة المساس بالتوزنات الموجودة في لحظة مواجهة أميركية -إيرانية، ما يعني أنّ الأمور ستبقى تحت السيطرة وسياسة «النأي بالنفس» لن تُخرق، الأمر الذي يشكل فرصة على لبنان استغلالها والتقاطها من أجل ترتيب أوضاعه الاقتصادية.

والأولوية الثالثة التي تشكل عنوان المرحلة لبنانياً ودولياً تتمثل بمقررات مؤتمر «سيدر» الذي يضع لبنان بين خيارين: الالتزام بالأجندة الدولية الإصلاحية أو الانهيار، وهذه المرة الأولى التي يتم فيها وضعُ لبنان تحت المجهر الدولي الرقابي على إدارة الدولة بهذا الشكل، الأمر الذي يعني أنّ هناك إرادة دولية بتجنيب لبنان الانهيار الاقتصادي الذي يؤدي حُكماً الى انهيار سياسي وأمني، كما أنّ هناك إرادة للإشراف على بناء بنية الدولة الاقتصادية في ظلّ غياب الثقة بالإدارة السياسية اللبنانية، وأهمية هذه الرقابة الدولية أنها تشكل فرصة جدية للبنانيين من اجل تحسين أوضاعهم الحياتية والمعيشية والأساسية والبديهية بمعايير دولية.

وأيّ نظرة سريعة الى الوضع اللبناني تخلص الى اعتبار لبنان في وضع شبه مدوّل ومزنّر بقرارات دولية والمساعدات تشمل كل القطاعات والمجالات، الأمر الذي يجعل أيَّ سلطة مضطرة حكماً إلى التعامل مع هذا الواقع الذي يجعل من لبنان جزءاً لا يتجزّأ من الشرعية الدولية.

فبعيداً من كل التحليلات المؤامراتية أو التي تنمّ عن جنوح ورغبة شخصية فإنّ الأولويات الدولية لن تتبدّل في المدى المنظور: الاستقرار، «النأي بالنفس» و»سيدر».