كُلّف نائب “حزب الله” السيد حسن فضل الله من قيادته قبل أشهر تولّي ملف الفساد المستشري في لبنان، والاعداد الجدّي لفتحه في مجلس النواب والاعلام عند اكتماله أو عندما تتوافر المعلومات التي يحتاج إليها القضاء لبدء النظر في الموضوع. ولم يكن المقصود هنا التريّث في انتظار استكمال المعطيات عن نواحي الفساد كلها في البلاد، إذ أن ذلك يعني عدم القيام بشيء نظراً الى “تُعشّش” الفساد في الادارات والمؤسسات الدستورية وغير الدستورية والأحزاب والطبقات السياسية والطوائف والمذاهب بمدنييها ورجال دينها. ويعني ذلك أن “الشعوب” اللبنانية صارت أكثر ميلاً الى الفساد منها الى التزام القوانين. “فالناس على دين ملوكهم”، و”ملوكنا” أو بعضهم صاروا رموزاً للفساد الذي يدل على جوع عتيق عند الجُدد وعلى إصابة “العريقين” بداء عدم الشبع. وقام فضل الله بالمهمة و”أنجز ملف الفساد الناجم عن غياب القيود المتعلقة بصرف مبلغ يقارب الـ11 مليار دولار أميركي خلال فترة معينة من تاريخ لبنان، كانت المسؤولية الحكومية خلالها مناطة بفريق مناهض سياسياً ووطنياً للفريق الذي يمثله هو. وقد أبلغ الى مجلس النواب في أثناء مناقشة البيان الوزاري للحكومة الجديدة أنه صار على أهبة التحرّك العملي لفتح ملف الفساد. وعندما فعل قامت القيامة عليه وأيضاً على حليف حزبه “التيار الوطني الحر” الذي كان سبقه ومن زمان في اثارة هذا الأمر في كتاب سمّاه “الابراء المستحيل”، وفي وسائله الاعلامية وفي خطب مؤسسه في حينه العماد ميشال عون وكادراته، الذين تحوّل بعضهم لاحقاً نواباً ووزراء. سياسياً اعتبر “تيار المستقبل” وأفرقاء 14 آذار رغم انفراط عقده فتح هذا الملف استهدافاً سياسياً لهم وتحديداً لرئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. فهو الذي واجه “حزب الله” وحليفه “التيار” المسيحي ورئاسة الدولة في الحرب العسكرية الفاشلة التي شنتها اسرائيل على “الحزب” ولبنان عام 2006، وفي أثناء المفاوضات التي دارت بعد انتهائها مع الامم المتحدة ومجلس أمنها وأميركا والدول الكبرى الأخرى وغيرها، من أجل التفاهم على وقفها وضمان عدم تجددها فكان القرار 1701. علماً أن الخلافات بين الفريقين وكانت حادّة وكبيرة لم تحل دون تعاون الفريقين بواسطة رئيس مجلس النواب نبيه بري شريك “الحزب” في الثنائية الشيعية. وعلماً أيضاً أن انتهاء الحرب فتح الباب لاحقاً أمام مواجهة شعبية وسياسية بين الفريقين تمثّلت باحتلال وسط بيروت ومحاصرة السرايا الحكومية على نحو شبه شامل. علماً أنها كادت أن تتحول مذهبية أي سنية – شيعية. طبعاً ساهم “مؤتمر الدوحة” في إنهاء المواجهة الميدانية بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة ترأسها زعيم “المستقبل” السنّي سعد الحريري. لكن بقي السنيورة نائباً، وبقي في نظر “شعبه” رجل الدولة الذي واجه والذي لم يتنازل، ولا سيما بعدما لمس في أكثر من مرحلة أن قيادته السياسية العليا لا تتمتع بكل ما تمتع به السنيورة، سواء في أثناء حكمه رغم دفعه ثمن تمسكه بالمواقف نفسها أو في أثناء غيابه عن لبنان سنوات أربع، أو حتى بعد عودته اليه والى رئاسة الحكومة. فهو من جهة “أقصى” عن النيابة مباشرة أو مداورة أحد أكثر الناس قرباً من والده الشهيد رفيق الحريري، وبدا واضحاً في أكثر من مجال الاختلاف في وجهات النظر بينهما في مواقف اتخذها و”تسويات” أجراها و”ربط نزاع” قام به وربما أكثر. وبدأت شخصيات عدة داخل “المستقبل” رسمياً وقريبة منه منذ تأسيسه وغالبيتها الساحقة سنية في التكوكب حول السنيورة. لكن الوضع في البلاد بلغ مرحلة دقيقة جداً. ففي السياسة سيطر “حزب الله” على المشهد السياسي في البلاد بأكثرية سياسية مؤيّدة له وبرئيس جمهورية حليف له، وبانتصارات عسكرية في معارك سوريا حوّلته لاعباً لبنانياً – اقليمياً مهماً جداً في آن. وفي السياسة أيضاً بدأ “الحزب” يستعد للمستقبل القريب والمتوسط في بلاده والمنطقة، فتجاوز خلافاته غير الاستراتيجية مع حليفه المسيحي “التيار العوني”، ومدّ يده غير السياسية لأخصامه على الساحة المسيحية، ونجح في اختراق الساحة الدرزية والساحة السنية، وهو يعمل لجعل الاختراقين حالة متجذرة وموجودة بقوة، ويطمئن في الوقت نفسه أخصامه فيهما الى رغبته في بقاء دوريهما السياسيين. علماً أن هؤلاء لم يطمئنوا ولكن ليس في أيديهم حيلة كما يُقال داخلياً وخارجياً حتى الآن على الأقل.

الا أن الخطير هو أن ملف الفساد في الـ11 مليار دولار سيتخذ إن لم يكن اتخذ طابعاً مذهبياً، والسؤال الذي يطرح هو الى أين سيؤدي ذلك؟ الى حرب داخلية سياسية وغير سياسية؟ الى فتنة ثم الى سقوط حكومة وتعذّر ملء فراغها؟ الى محاولة “الحزب” تغيير النظام اللبناني الذي يتهمه أخصامه وأعداؤه بالتحضير له؟ لا أجوبة عن هذه الأسئلة الآن. لكن الوضع خطير. ولذلك على نائب “حزب الله” المكلف بالفساد أن يتابع العمل ويقلل الكلام الذي انطوى على اتهامات غير مباشرة اسمياً لكن معروف من تستهدف. وقد عبّر عن ذلك السنيورة في مؤتمره الصحافي الذي لم يكن ضرورياً عقده باستعارة من فيروز “سمّى الجيرة وسمّى الحي ولولا شوي سمّاني”. كما انطوى على بعض “الزهو” الشخصي وهذا طبيعي لكنه مؤذ، واستمراره قد يعطّل مسيرة مكافحة الفساد أو يقلّل من ثقة الناس المنتمية الى “شعوب” عدة، بأنه سيحقّق غرضه ويطال الفاسدين الموجودين فيها كلها. نقول ذلك حرصاً على “المكافحة” ومن خلفها ومن عبّر ويعبر عنها، ذلك أن الخطأ ممنوع والعقاب موجود.

هل الرئيس السنيورة فاسد؟ هل يهدد التصعيد بسبب فتح الملف الأول للفساد بضرب حملة مكافحة الفساد؟ كيف تتم مكافحته في صورة ناجحة؟