باريس تطرح مقترحات لوضع خارطة جديدة قبيل الانتخابات الأوروبية، والمعارضة تتهم ماكرون بتنظيم حملة انتخابية لحزبه على حساب الدولة الفرنسية.
 
اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل ضمني بحالات الوهن التي أصابت الاتحاد الأوروبي بعد أكثر من سبعة عقود على إنشائه.
 
جاء هذا الاعتراف في دعوة إصلاحية كتبها في مقال بعنوان “من أجل نهضة أوروبية” نشرته صحف أوروبية الاثنين وارتكز على ثلاث قضايا أساسية كانت محور حملته للانتخابات الرئاسية في 2017 “الحرية والحماية والتقدم”.
 
وفُهم من رسالة ماكرون أنها مواصلة لحملة يقودها منذ وصوله إلى سدة الرئاسة لإصلاح النادي الأوروبي وتخليصه من ترهله وتحصينه من  تصاعد التيارات الشعبوية، حيث أنه في أجواء البلبلة الناجمة عن بريكست و”الانطواء القومي”، هناك وضع “ملح” لأن “أوروبا لم تكن يوما في خطر كما هي الآن”.
 
وقال أيضا في مقالته التي نشرت في وسائل إعلام في 28 دولة بينها صحيفة “لو باريزيان” الفرنسية، و”دي فيلت” الألمانية اليومية، و”الغارديان” البريطانية اليومية، و”البايس” الإسبانية، و”كوريري ديلا سيرا” الإيطالية، بالإضافة إلى 28 صحيفة إقليمية فرنسية إنه “لا يمكن لأي مجموعة أن يكون لديها شعور بالانتماء ما لم تكن لديها حدود تقوم بحمايتها”.
 
ويعكس توجه الرئيس الفرنسي للأوروبيين من خلال صحف تنتمي إلى بلدان أوروبية متعددة، رغبة فرنسا ورئيسها في قيادة جهود إصلاحية عاجلة لترميم ما أحدثه زلزال البريكست البريطاني ولمنع المزيد من تقدم أحزاب اليمين المتطرف في عدد من البلدان الأوروبية.
 
وعرض ماكرون مقترحات من بينها إنشاء “مؤتمر لأوروبا” قبل نهاية العام، تكون مهمته الأساسية وضع خارطة طريق جديدة للاتحاد “دون محظورات حتى لمراجعة المعاهدات”.
 
وتوصف خطوة ماكرون الأخيرة بأنها تجاوزت المطالعات النظرية بذهابه إلى طرح ملفات تتعلق بالأمن ومكافحة الإرهاب وحماية أوروبا، وهي ملفات لطالما كانت من الحجج الأساسية التي تستخدمها الشعبوية الجديدة الصاعدة في دول الاتحاد.
كما ذهب الرئيس الفرنسي إلى الدعوة لـ“إعادة نظر شاملة في فضاء شنغن”، مطالبا بإنشاء “شرطة حدود مشتركة، ومكتب أوروبي للجوء، وفرض قيود مراقبة إجبارية، في إطار تضامن أوروبي تشارك فيه كل دولة تحت سلطة مجلس أوروبي للأمن الداخلي”.
 
واعتبرت خطة ماكرون محاولة لسحب البساط من تحت أرجل اليمين المتطرف المتأثر بأطروحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الدعوة إلى بناء جدران حدودية والتصدي لموجات الهجرة.
 
ورأى مراقبون أن الرئيس الفرنسي يحاول حماية مبدأ منطقة الشنغن التي تتيح التنقل الحر بين أعضائها من خلال التشدد في آليات المراقبة، بقوله “لا يمكننا السماح للقوميين الذين ليس لديهم حلول باستغلال غضب المواطنين”.
 
وتم تصنيف رسائل ماكرون على أنها تعبيرة عن تحمّسه لإصلاح الاتحاد الأوروبي، قبل أقل من ثلاثة أشهر على إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي التي من المقرر إجراؤها في مايو المقبل.
 
كل هذه المخاطر المحدقة بالاتحاد الأوروبي أشار إليها أيضا رئيسُ المجلس الأوروبي دونالد توسك الذي حذر من أن “قوى معادية لأوروبا” تتدخل في انتخابات القارّة بعدما أثّرت على استفتاء بريكست في بريطانيا.
 
من جهة أخرى، نفت الرئاسة الفرنسية أن تكون خطوة ماكرون مندرجة في إطار حملة انتخابية مبكّرة بقولها إن المقال ليس بداية لحملة الانتخابات الأوروبية بل “دفع” أو وسيلة “لرسم المعالم” قبل الاقتراع الذي سيجرى في 26 مايو.
 
ومع ذلك، يبدو أن ماكرون يدخل معركة الانتخابات الأوروبية من الباب الكبير، بينما تشير استطلاعات الرأي إلى منافسة شديدة بين حزبه “الجمهورية إلى الأمام” وحزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف في نوايا الأصوات.
 
ويقر ماكرون بأن الظروف العالمية تبدلت عما كانت عليه حين إنشاء النادي الأوروبي الذي تطور إلى أن أصبح اتحادا أوروبيا، وأن الظروف الأمنية تغيرت عما كانت عليه عند إنشاء فضاء شنغن، ما يتطلب تطوير آلياته الأمنية.
 
ورأى أن “الحدود هي الحرية في جو آمن، علينا أن نعيد النظر بشكل شامل في فضاء شنغن، على كل الذين يرغبون بالمشاركة فيه أن يكونوا مجبرين على تحمل مسؤوليات (إجراءات مراقبة صارمة على الحدود) وعلى ابداء حس تضامن (سياسة لجوء واحدة مع نفس شروط القبول والرفض)”.
 
وذهبت القراءات السياسية إلى التأكيد على أن ماكرون يحاول إمساك العصا من النصف بحيث يرد على المطالبين بإلغاء هذا الفضاء واستعادة الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي والعودة إلى فرض إجراءات أمنية، بما يطيح بقيم الاتحاد لجهة الحرية الكاملة في تنقل الأفراد والسلع والخدمات بين البلدان الأعضاء.
 
وكتب ماكرون “سنحتاج إلى قوة حدود مشتركة ومكتب لجوء أوروبي، وإجراءات رقابة صارمة وتضامن أوروبي تساهم فيه كل دولة تحت سلطة مجلس أوروبي للأمن الداخلي”.
 
وكانت فرنسا قد أعادت عمليات التدقيق على حدودها في أعقاب حصول اعتداءات 23 نوفمبر 2015. ويتم تجديد هذا الإجراء كل ستة أشهر بسبب المخاوف من التهديد الإرهابي، من دون أن يعني هذا أن إجراءات التدقيق والتفتيش على الحدود تبقى قائمة بشكل دائم، بل هي استنسابية.
 
وتستهدف هذه الإجراءات حدود فرنسا مع بلجيكا ولوكسمبورغ وألمانيا وسويسرا وإيطاليا وإسبانيا، إضافة إلى الحدود البرية والبحرية مع هذه الدول.
 
وتأتي دعوة ماكرون لتضفي طابعا رسميا على إجراءات اتخذتها بعض دول شنغن في السنوات الأخيرة رداً على موجة الأعمال الإرهابية التي ضربت عددا من المدن الأوروبية في السنوات الأخيرة.
وبشكل إجمالي هناك ست دول أعادت فرض التدقيق على حدودها داخل فضاء شنغن، وهي فرنسا وألمانيا والنمسا والدنمارك والسويد والنرويج، للحد من تحرك المهاجرين غير الشرعيين بين هذه الدول.
 
كما تضمنت مقترحات الرئيس الفرنسي وجوب حماية الديمقراطية داخل الاتحاد بعد تقارير تحدثت عن هجمات إلكترونية روسية المصدر أثرت على الرأي العام الأميركي أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية كما أثرت على الرأي العام البريطاني في فترة الاستفتاء على مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما تشك بعض التقارير في تدخل إلكتروني روسي لصالح اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة التي شهدتها فرنسا وألمانيا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى.
 
وطرح ماكرون أفكار إصلاح ملموسة، بما في ذلك وكالة أوروبية لحماية انتخابات الدول الأعضاء من الهجمات الإلكترونية والتلاعب، وفرض حظر على تمويل الأحزاب السياسية من قبل قوى أجنبية، وتجريم خطاب الكراهية عبر الإنترنت.
 
وفيما يشن ترامب حربا تجارية طالت بلدانا مثل الصين وأوروبا، يقترب ماكرون من منهج ترامب دون أن يسقط في فخ السياسة الحمائية الترامبية التي تتناقض مع قيم الاتحاد الأوروبي. وتلفت الخطة الفرنسية إلى ضرورة حماية اقتصادات الدول الأوروبية من المنافسة غير القانونية واستغلال الشركات الدولية الكبرى خصوصا التشريعات الأوروبية.
 
وبعد اعتراض المفوضية الأوروبية على مشروع دمج مجموعتي “سيمنز” و”ألستوم” معتبرة أن عملية الاندماج تخالف قواعد المنافسة، يرغب ماكرون في “تحديد مرجعية أوروبية كما يفعل الأميركيون والصينيون”. وكتب “يجب إصلاح سياسة المنافسة التي نتبعها وإعادة تأسيس سياستنا التجارية”.
 
في سياق متصل تم اقتراح إصلاح سياسة الاتحاد الأوروبي للمنافسة والتجارة ومعاقبة أو حظر الشركات التي تقوض المصالح الإستراتيجية للاتحاد “مثل المعايير البيئية وحماية البيانات ودفع الضرائب بشكل عادل”.
 
وأمعن ماكرون في إعطاء جرعات مضادة للترامبية عبر الدفاع عن طموحات بيئية تحت سقف اتفاق باريس للمناخ والذي أعلن الرئيس الأميركي انسحاب الولايات المتحدة منه.
 
واقترح إنشاء مصرف أوروبي للمناخ “من أجل تمويل الانتقال البيئي للقارة. وهو يحدد هدفين في مجال البيئة هما “صفر كربون في 2050 ونصف كمية مبيدات الحشرات في 2025”.
 
من جهة أخرى، حرص ماكرون على عدم إغلاق الباب في وجه المملكة المتحدة الغارقة في “مأزق” بريكست، لكنها تبقى شريكا كبيرا خصوصا في مجال الدفاع. بقوله “في أوروبا ستكون الشعوب قد استعادت فعليا التحكم في مصيرها. في أوروبا، أنا على ثقة من أن المملكة المتحدة ستجد مكانها”.
 
وتوصف مقالة الرئيس الفرنسي بأنها لا تخرج عن معركة الانتخابات الأوروبية المقبلة. فبغياب شخصية باستطاعتها قيادة حزبه في هذه الانتخابات، يتولى ماكرون شخصيا هذه المهمة، فيما تتهمه المعارضة بتنظيم حملة انتخابية لحزبه على حساب الدولة الفرنسية.