فلتة اللسان العنيفة والعصبية (والصادقة خصوصا) التي تفوه بها النائب عن حزب الله في البرلمان اللبناني حول ظروف انتخاب الراحل بشير الجميل، كادت تتحول إلى فلتان أمني في الشارع المسيحي. لم يكتف الحزب بالاعتذار عما تفوه به النائب نواف الموسوي خارج الحدود المرسومة، بل جمد كل أنشطته النيابية والسياسية والحزبية والإعلامية. إذ بعد أن وضع الحزب يده فعليا على الدولة اللبنانية، ما حاجته للتبجح وزيادة الطين بلة!

وخصوصا أن من كانوا "قيادات 14 آذار" يوما، يدافعون عنه ويغازلونه جهارا! لذا يتصرف حزب الله حاليا كالحمل الوديع إلى أن يحين أوان استحقاق جديد! وفي هذا السياق من غير الواضح بعد ماذا الذي سيجد بعد استقالة ظريف ورفضها! وعلى ماذا سترسو بورصة التوازنات الإيرانية.

لكن في غمرة "نفض" يده من غضبة الموسوي، الذي أبطل شرعية رئيس منتخب، قضى الحزب الديني على سيادة البرلمان نفسه؛ وعيّن نفسه فوق السلطة التشريعية. هذا في زمن النعومة والمهادنة! فما بالك لو طرأ أمر جلل؟

فحالنا كحال الضفدع الشهير، الذي يوضع في ماء فاتر ترفع درجة حرارته ببطء شديد وهو لا يشعر بالسخونة المتدرجة إلى أن تأتي لحظة يموت فيها.

الجميع من حولنا يطمئن نفسه: "لا خوف على لبنان"، "لا خوف على الحريات"، "ما حدا بيقدر ياخد البلد.. إلخ". وفي هذا الوقت تستمر الصفقات وخرق القوانين وإعاقة تطبيق دستور الطائف. وعندما نستفيق سيكون لبنان الذي نعهده قد انتهى.

لنعد إلى انعكاس ما تفوه به الموسوي على الشارع؛ حُرق أحد مقار حزب الكتائب (الذي كان يرأسه بشير الجميّل) وحصلت تجمعات في الأشرفية، وصرح النائب نديم الجميل: "مستعدون لحمل السلاح". وأردف النائب عن حزب القوات اللبناني عماد واكيم: "نحن وقت الحرب قوات". ونقلت صحيفة إلكترونية أنه "منذ مطلع شباط/فبراير تتناقل مواقع التواصل الاجتماعي "تغريدات" مسيئة للمقدسات المسيحية".

وإذا دلّ ذلك على شيء فعلى هشاشة الوضع الأمني وعلى مدى ضعف التماسك الاجتماعي وهو ما يهدد السلم الأهلي. ناهيك عن أن السلم الأهلي الذي يقوم على خلفية القهر والإكراه اللذان يمارسان يوميا من مؤيدي حزب الله، لن يلبث أن ينفجر وقد يتحول إلى عنف أهلي.

أجرت جمعية "واي" في العام الماضي في طرابلس استفتاء حول التماسك الاجتماعي تبين في نتيجته أن 55.5 في المئة من الإجابات كانت إيجابية لصالح التماسك الاجتماعي مقابل 44.5 في المئة سلبية. وهو تماسك وسطي أو ضعيف. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاستمارة توجهت إلى النخبة، أي قادة رأي وشخصيات اجتماعية وليس إلى الجمهور الواسع.

وهذا أمر مفروغ منه في لبنان في لحظة الانقسام هذه التي نعيشها والمستمرة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويتفاقم هذا الانقسام مع الوقت ومع الممارسات غير المسؤولة لمن هم في مراكز المسؤولية.

يتبين لنا يوميا أنه كلما ازداد تماسك أعضاء الطائفة، ضعف التماسك الاجتماعي على المستوى الوطني. والدليل على ذلك فشل كل تحرك مطلبي أو نضالي وانقسام الحراك المدني.

فإذا كانت الهوية الوطنية نفسها مهددة والنقابات منقسمة طائفيا ـ في جزء كبير منها ـ فكيف يمكن الحديث عن تماسك اجتماعي أو سلم أهلي؟

السلم الأهلي لا يقوم فقط على مجرد إيقاف الحرب، بقدر ما يهدف إلى تدعيم نظام القيم وحسن العلاقات بين الأفراد والجماعات وتدعيم التماسك الاجتماعي.

لكن ما المقصود بالتماسك الاجتماعي ومتى برز المفهوم ولماذا؟

أول من استخدمه دوركهايم؛ وعنى به الحالة المعبرة عن حسن سير المجتمع، معتبرا في أطروحته في العام 1893 أن تقسيم العمل هو الذي يساعد على التماسك الاجتماعي الذي يعني التضامن بين الأفراد، ووجود وعي أخلاقي جماعي.

ووجد أن تقسيم العمل يزيد التضامن الاجتماعي ويدعمه، لأنه يعمل على التقريب بين العمال بواسطة المشقة والتعب الناتج عن النشاط المتقاسم بينهم. إن الفصل بين المهام في ممارسة النشاطات ينوعها بقصد التكامل والاعتماد المتبادل ويزيد الروابط بين البشر.

لكن ما يؤطر تقسيم العمل، قانون أخلاقي وليس طبيعي. والصلة الاجتماعية الناتجة يمكن نعتها بالصلة الأخلاقية لأنها تعبر عن حاجة التوازن والرغبة بنظام اجتماعي مثالي. فالتآزر يحصل في مؤسسة عامة بين كل نشاط من النشاطات رغم اختلاف مجالات التخصص، الأمر الذي ينتج عنه الشعور بالتضامن فيصير أحد مقومات التماسك الاجتماعي. ويمكن تشبيه المجتمع اللبناني والعلاقة بين طوائفه كالعلاقة بين مجموعات عمالية تتشارك العمل.

وكما أن تقسيم العمل يقوي التماسك الاجتماعي، فما بالك بتقاسم العيش المشترك والمتوازن بين الطوائف والجماعات بما يدعم التماسك الاجتماعي ويساهم بتحقيق مصالحها! شرط احترام المساواة العادلة دون طغيان من أي طرف؟

يؤكد دوركهايم الصلات بين الجماعات والفئات الاجتماعية؛ فكلما ترسخ أوجه التشابه بينها كلما تعمق التماسك الاجتماعي، والعكس صحيح. ونحن نعلم أن حزب الله نمّى ثقافة خاصة بالبيئة الشيعية، مستجلبة من إيران وغريبة عن الاجتماع اللبناني المعتاد، فسلخ "بيئة" حزب الله ومحازبيه عن الثقافة اللبنانية التقليدية.

هناك نوعان من التماسك الاجتماعي بنظر دوركهايم: الأول يقوم على التضامن الميكانيكي، والذي يميز النظام القديم في مجتمع غير ديمقراطي؛ يضم فيه أفرادا (Heteronomy) غير مستقلين، يؤمنون بمعتقدات غيبية خارجة عنهم، ويكون لديهم نفس القناعات والإيمان والعادات والقيم.

وبين "التضامن العضوي" والخاص بالنظام الاجتماعي الجديد في مجتمع ديمقراطي، يختار فيه الشخص الأطر التي تناسبه ليلتحق بها كالنقابات والجمعيات الأهلية والنوادي وغيرها. والتضامن الجديد يرتكز على الترابط المتبادل الذي يوجده تقسيم العمل أو تقاسم السلطات والعيش المشترك. وهذا النوع لا يمكن أن يكون أوتوماتيكيا.

النوع الأول من التماسك هو الذي عمل حزب الله على تقويته داخل بيئته، مبعدا إياها عن باقي المكونات الوطنية ومضعفا التماسك الاجتماعي الوطني. وأراد الطرف المسيحي تقليده في ذلك في اتفاق معراب (الاتفاق بين حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر) وفشل. والثاني هو الذي يساهم في تمتين علاقات التضامن والتماسك على المستوى الوطني.

ولا يبدو أن بمقدور حزب الله الحفاظ على التماسك الاجتماعي ما دام مستمرا في ممارساته العرجاء والمنحازة؛ والدليل أن المقصود بأنشودة محاربة الفساد هو الانتقام من خصومه وعلى رأسهم الرئيس فؤاد السنيورة الذي يتعرض لهجمة شرسة من جوقة الحزب. والحزب الذي كان شريكا في السلطة (في الفترة التي يتهم فيها السنيورة في الفساد)، يريد تحميل السنيورة مسؤولية 11 مليار دولار، صرفت قبل عام 2011. فيما بلغ العجز في زمن استلامه السلطة أضعاف ذلك المبلغ الذي صرف بعد حرب "لو كنت أعلم" عام 2006. من يريد الإصلاح يبدأ من نفسه، ويبدأ بملف الكهرباء الذي يستنزف أموال الدولة علنا.

نفتقد العامل الذي يلعب دور الإسمنت الجامع لمكونات المجتمع اللبناني؛ وجود الدولة السيدة الحرة والمؤسسات والنقابات... لبنان، المحتلة إرادته، بات يفتقر إلى جميع هذه العوامل.