على غرار سياسة الدولة «النأي بالنفس» عن المحاور ومشكلات الخارج، ينأى رئيس الحكومة سعد الحريري بنفسه شخصياً عن القضايا الداخلية في المرحلة الراهنة، إذ ترك الرد على التهجمات والاستفزازات التي يتعرّض لها لفريقه وللمسؤولين في تيار «المستقبل». أما هو كرئيس حكومة، فيعتبر أنّ الخيار الوحيد الذي يُمكنه اتخاذه راهناً، لإفادة لبنان وتحقيق نقلة نوعية إصلاحية، هو تحاشي الدخول في سجالات.
 

مواقف عدة نأى الحريري بنفسه عنها بعد تأليف الحكومة. فلو كان مكانه رئيس حكومة آخر لـ»أقام القيامة» عليها ولم يُقعدها، لأن البعض يعتبر أنها تمسّ بصلاحيات هذا المركز الدستوري وحيثياته الوطنية والطائفية والشعبية. فالحريري نأى بنفسه عن السجال حول موضوع النازحين في الجلسة الأولى لمجلس الوزراء، وكذلك عن زيارة وزير النازحين صالح الغريب لدمشق، وكلام وزير الدفاع الياس بوصعب عن المنطقة الآمنة في شمال سوريا. كذلك نأى رئيس تيار «المستقبل» بنفسه عن «خبطة يد» رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على طاولة مجلس الوزراء، وأكّد في الجلسة التالية والثانية للمجلس أنّه لن يُستدرج إلى خلاف مع عون. ونأى بنفسه عن التجاذب حول قرار مجلس الوزراء منح الدرجات الست للأساتذة الثانويين المتمرنين.

ومن أبرز مشهديات «النأي بالنفس»، نأي الحريري بنفسه عن استهداف «حزب الله» الرئيس فؤاد السنيورة. وأخيراً نأى بنفسه أيضاً عن المعلومات التي ترددت حول زيارته والغريب موسكو، قبل أن يتضح أنّ عون هو الذي سيزورها للمرة الأولى، حاملاً ملف النازحين السوريين الذي كان ينسّقه مع الروس ويتابع المبادرة الروسية في هذا الشأن عبر مستشاره للشؤون الروسية جورج شعبان.

الرجل لا يُفكّر مثل سائر الطبقة السياسية، ولا يهم رئيس «التيار الأزرق» حالياً سوى موضوع واحد وهو مؤتمر «سيدر»، ولا يريد إلّا أن تدخل مقرراته حيز التنفيذ، فيستفيد منه لبنان بأكبر قدر ممكن لإمرار هذه المرحلة الصعبة، لأنّ السجال السياسي في هذه المرحلة لن يؤدّي إلّا إلى تعطيل كل ما يمكن الاستفادة منه عبر «سيدر».

فمسألة الصلاحيات التي تؤرق السياسيين والمسؤولين ممثلي طوائفهم، يكفلها الدستور بالنسبة إلى الحريري. و»خبطة» اليد أو غيرها لا تغيّر الدستور. وبالتالي، إنّ مشاركته في سجال حول أي موقف أو حالة موقتة سيُدخل البلد في حالة تعطيل مجدداً وحرب «دونكيشوتية» لا فائدة منها.

هذه السياسة التي ينتهجها الحريري راهناً، هدفها تسهيل تطبيق مندرجات «سيدر»، لكنها قد لا تؤتي ثمارها، و»النأي بالنفس» وعدم الرد على الاستفزازات والاستهدافات قد لا يسهّلان له تأمين مقررات «سيدر»، فيخسر مجدداً من رصيده الشعبي الذي قد يعتبر أنّ «الزعيم السنّي» مُستمر في التنازل واتخاذ قرارات ومواقف تُضعف حيثيته وقاعدته وبالتالي طائفته. لكن الحريري يعتبر أنّ خسارته تعني خسارة لبنان، ولا تهمّه انكساراته المباشرة إذا انكسر البلد. هذا اقتناعه الذي يؤكّده باستمرار للقريبين منه ولكوادر تياره. فبالنسبة إليه لا نفع للزعامة إذا كان لا يوجد بلد.

«النأي بالنفس» تمدّد حتى إلى «محرّمات»، فلم تظهر حتى الآن أي إشارة من الحريري شخصياً تدلّ إلى وقوفه مع السنيورة في وجه الحملة التي استهدفته أخيراً. فحتى المؤتمر الصحافي الذي ردّ فيه السنيورة على إتهامات «حزب الله» وعضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب حسن فضل الله، لم يُعقد في «بيت الوسط» بل في دار نقابة الصحافة، ومرد ذلك بالنسبة إلى «المستقبليين» أنّ قضية السنيورة ليست قضية الحريري فقط، بل إنّها قضية وطنية، ومكان عقد المؤتمر اختير للدلالة الى أنّ احتضان السنيورة غير محصور بـ»المستقبل» فقط، بل إنه احتضان وطني. كذلك، من المؤكّد أنه لم يكن ممكناً تحرُّك تلفزيون «المستقبل» والرد على هذا الموضوع عبر مقدمة نشرة الأخبار المسائية، إذا لم يكن الحريري راضياً على هذا الكلام، على رغم من أنّ البعض اعتبر أن هذا الرد تأخّر، وأنّ المقدمة الإخبارية جاءت رداً على مقدمة نشرة أخبار قناة «أو. تي. في» أكثر منها على «حزب الله».

عملياً، ما يقوم به الحريري هو أنه يمارس دوره كرئيس حكومة يعتمد منطق «النأي بالنفس» إلى أقصى ما يُمكن. أما أوساط «المستقبل» الأخرى، من كتلة نيابية ومسؤولين في التيار وشخصيات «حريرية» ومؤسساته الإعلامية، لا تقصّر أبداً في الرد. 

وفي الموازاة، وبعد الرسالة التي نقلها إليه المبعوث الفرنسي المكلّف متابعة تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» بيار دوكان، ومفادها ضرورة البدء بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، تتركّز خطة الحريري بالنسبة إلى هذا المؤتمر على «النأي بالنفس» وعدم الدخول في سجالات وتطبيق البيان الوزاري، فهذا ما يُمكنه فعله، خصوصاً إذا كانت هناك أطراف أخرى تعمل من حيث تدري أو لا تدري على تخريب البلد، وهو لن يسمح لأي حدث مهما كان عظيماً باستدراجه الى «فرملة» العمل.

أما تصوُّر الحريري الإصلاحي فمبني على مقررات «سيدر» وبنوده، وهي واضحة. فهو مقتنع أنّ هذه البنود تساعد في إصلاح الوضع السائد في لبنان وتحقق نتائج إيجابية للدولة على المدى البعيد. ويعتبر أنه كرئيس حكومة مؤتمن على «سيدر» لكن ليس بمفرده، فهناك مجموعة من المسؤولين في لبنان. كذلك، إنّ كل القرارات والسياسات في هذا الإطار تصدر عن مجلس الوزراء لا عن رئيس الحكومة، وهذا المجلس هو موزاييك من الشعبويات. وعلى رغم من أنّ الحريري ينأى بنفسه ويعتبر أنه يُعطي أقصى ما يُمكنه، إلّا أنه لن يقبل أن يحمّله أحد مسؤولية فشل الحكومة أو البلد، ويقول: «ليُظهر كل طرف ما الذي يفعله للنهوض بالدولة».