منذ ثلاثة عقود “يسمع” اللبنانيون عن القضاء المستقل كأساس مرجعي لا بناء للدولة الحقيقية من دونه ولم يعاينوا مرة محاولة جادة حقيقية لتحقيق هذا الهدف الجوهري. كان الرئيس حسين الحسيني صاحب الصوت الاصدح في ملاحقة هذا الجانب الأخطر اطلاقا في مندرجات وثيقة الطائف ووضع مشروعا متكاملا لا يزال في ادراج البرلمان كما سواه لقيام السلطة القضائية المستقلة، وعبثا منذ بدء تنفيذ الطائف تنفيذا استنسابيا وإنتقائيا العثور على أثر فعال وحقيقي لدى الطبقات السياسية المتعاقبة لاطلاق الشعلة الجادة لقيام القضاء المستقل بل لم تكن هناك سوى موجات متعاقبة لتسخير القضاء ومسخه وجعله دوما تحت وطأة الاستنساب والضغوط والتدخلات السياسية والنفوذات والمصالح الشخصية المباشرة.

لا يعني هذا السرد القاتم التنكر لقضاة شجعان دفعوا أثماناً لتفلتهم من منظومة شديدة الإفساد في منع تحقيق السلطة القضائية المستقلة، ولكنهم يشكلون حالات متفرقة لم ترق الى مستوى ثورة قضائية من شأنها ان تحيي طموحات اللبنانيين وآمالهم في قضاء يكون هو الخط الفاصل تاريخيا بين دولة الزبائنية والتبعية للطبقات السياسية المستأثرة بمكونات السلطات وبين دولة واعدة بالحدود الدنيا من الدولة الطبيعية. تقف البلاد حاليا امام منقلب قد يكون تاريخيا في تقرير محاولات عبورها الى ضفة أخرى قبل ان تخر صريعة الافلاس والمديونية القياسية والفقر المتسع واليأس الذي لم يعرف مثله اللبنانيون في أكثر حقبات الحرب قتامة.

ولا نغالي اطلاقا في الاعتقاد بان مجمل المصير اللبناني وامكانات انقاذه من متاهات الاحتمالات الاكثر سوءا تتوقف على اختبار تاريخي بكل ما للوصف من معنى وهو اختبار اقامة السلطة القضائية المستقلة قولا وفعلا وتحرير القضاء من ارتهانه للساسة والسلطويين والحكام والا عبثا الرهان على اي انقاذ. تنشب في البلاد الان حروب باردة للمرة الاولى بهذه الفجاجة تحت عنوان مكافحة الفساد. ولعلها فرصة حقيقية للبنان، ان لم تحد هذه المواجهات عن سكتها وتغدو مشاريع دفن لمكافحة الفساد اذا ما تمادت على النموذج الذي يراد له استهداف فريق والإمعان في استضعافه من خلال محاكمة حقبة محددة وترك كل الحقبات الحديثة المتعاقبة من السلطة من دون مس لاننا سنكون حينذاك امام اكبر مهزلة منذ عهد أميل لحود والفشل المدوي الذي انتهى اليه في تعقب خصومه.

يزمع العهد الحالي قريبا عقد مؤتمر فريد من نوعه عن الواقع القضائي اعد له العدة ويطلق الوعود والتعهدات بانه سيكون احد إنجازاته.سيكون امرا جيدا ان استبقنا المؤتمر للتحذير من تحوله منبرا إنشائيا يسيل فيه حبر كثيف عن القضاء المستقل وضروراته القصوى في تنقية صورة الدولة وفصل السلطات وبدء إشاعة الثقة بالقضاء الحامي للعدالة والجاذب للاستثمارات ومن ثم احباط الناس تكرارا بكل ما يبقي القديم على قدمه بما يعني بقاء السلطة القضائية تحت رحمة المحاصصات والتبعيات السلطوية والمصالح المعروفة.

لن نتوغل الى الأبعد في ابراز اخطار الانطباعات الخطيرة السائدة عن احكام ومحاكمات ولاعدالة او عدالة انتقائية، وحسبنا اننا نرى حروبا باردة متعددة تدور الان ولا ندري كيف ستخمد اذا حوّل القضاء سلاحا من أسلحة التصفيات السياسية فيها.