منذ عشر سنواتٍ وأكثر يتحدث الأميركيون عن ضرورات الانصراف للاهتمام بالتحدي الآسيوي. والتحدي الآسيوي شقّان: شقّ النهوض الاقتصادي للهند والصين وما يمثلّه من منافسةٍ للولايات المتحدة، وشقّ التحول الاستراتيجي الذي ينجزه الصينيون منذ عقدين، في استقلاليةٍ عن الولايات المتحدة، وما يعنيه في المجال العالمي. فحتى روسيا صارت (مع بعض الاستثناءات) محسوبةً على الصين. وكان الأوباميون يربطون بين الانصراف إلى الوجهة الآسيوية، والانصراف عن الشرق الأوسط. والعلاقات الأميركية الهندية جيدة، وبالطبع لا يمكن الحديث عن شيء من ذلك في العلائق مع الصين. إنما حتى في العلاقة الأميركية الصينية، يجري الآن تجاوُز التأزم الذي حصل في زمن إدارة ترامب، بالاتفاقيات التجارية التي بدأت تتجدد. وبالميزان نفسِه، نجد أن هذا التحدي، لا يمكن أن يجري استيعابه بالعلائق مع الهند، وإنما بإقامة توازُنٍ من جانب الولايات المتحدة بين هذين العملاقين الصاعدين.

وفي التوتر الحاصل أخيراً بين الهند وباكستان، وجد الأميركيون أنفُسهم مع الهنود، بينما وجد الباكستانيون أنفسهم أقرب إلى الصين. وقد أسِفَ دبلوماسيون وعسكريون أميركيون لما آلتْ إليه علاقاتُهم مع باكستان، مع اعتبارهم أنّ الصداقة مع الهند أهمُّ لهم من العلاقة بباكستان. وهكذا هناك الإدراكُ الأميركي الجديد بأنه حتى باكستان يحتاج الأمر إلى إدخالها في موازين التوازُن تلك، أو تستفيد الصين وحدها من المعسكر العابر للقارات الذي تبنيه مثلما كانت الولايات المتحدة تفعل منذ خمسينيات القرن الماضي. لذلك فأَوراق الصين متعددة في الاقتصاد والتجارة والسياسة والاستراتيجيا والجغرافيا السياسية. لكنّ الولايات المتحدة ما تزال تمتلك أوراقاً كثيرةً أيضاً، وإلاّ لما تراجعت الصين، ومالت لحلٍ في مسائل التبادل التجاري. إنما لو تأملْنا نتائج محادثات ترامب مع الرئيس الكوري الشمالي، لوجدنا أنّ ترامب كان يميل لتوقيع أي اتفاق إظهاراً لنجاحه. في حين أنّ الاستراتيجيين الأميركيين (ومنهم بومبيو وزير الخارجية) ما وجدوا ذلك ملائماً في هذا الوقت. وبخلاف عوائده فإنّ ترامب قبل وجهة نظر مستشاريه، حتى لا يخسر الانطباع بأنه الرئيس القوي بالداخل والخارج.

ما علاقة الشرق الأوسط بالوجهة الآسيوية في زمني أوباما وترامب؟ لدى الأميركيين تقليدياً حليفان استراتيجيان: إسرائيل وتركيا. وما تراجعت علاقاتهم بإسرائيل، لكنها تراجعت بتركيا. وهم يرون أنّ إسرائيل تستطيع حماية نفسها، بل وهي على وقْع تحدي إيران تستطيع الالتفات نحو روسيا من دون أن تتأثر علاقاتُها بالولايات المتحدة سلباً. وهذا ما لا تستطيعه تركيا، فإمّا مع الولايات المتحدة، أو مع روسيا، وليس بوسعها إقامة علاقات متوازنة، بخلاف إسرائيل.

وبغضّ النظر عن دلالات الخروج الترامبي من الاتفاق النووي مع إيران فإنّ الاتفاق عام 2015 ما أعطى الولايات المتحدة شيئاً، وزاد من اندفاعة إيران لهزّ الاستقرار في دول المنطقة. ومع ذلك فالأميركيون يريدون البقاء في العراق، وعدم البقاء في سوريا، ويقولون: سوريا مليئة بالمشاكل، ولندع إسرائيل تتفق مع روسيا على الخروج الإيراني. وإذا كان العراقيون يريدون الاستقلال بأمورهم، لكنهم من جهةٍ أُخرى يعرفون أنهم لا يستطيعون الخروج من الظل الإيراني. ووسط المعطيات المتاحة، فإنّ الولايات المتحدة ما تزال تريد استيعاب إيران، وأيام أوباما عن طريق الإعطاء، وترامب الآن عن طريق العقوبات يريد الوصول إلى النتيجة ذاتها.

هل هناك تناقُضٌ بين أن تكون أميركا بالشرق الأوسط والأقصى في الوقت نفسه؟ بالطبع لا. لكنّ الحضور المتوهّج في طرفي العالم، صار يشهد خصوماتٍ ومنافساتٍ وتحديات ما كانت في زمن الحرب الباردة، وهي بالتأكيد لم تكن كذلك في حقبة الهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. هناك تحدياتٌ نوعيةٌ ليس في القوة العسكرية فقط، بل وفي القوة الاقتصادية. وهذا فيما تتصدع الجبهة الأطلسية، وتعاني أوروبا من مشكلاتٍ صعبة، بعضها مع الولايات المتحدة.

ما تزال السردية الأميركية حاضرة، ويتمثل حضورها ليس في دعوى نشر القيم الديمقراطية وصَون الأمن والاستقرار في العالم، بل وفي المناكفات ومع الحلفاء والأصدقاء قبل الخصوم. ولنعبّر عن ذلك بطريقةٍ أُخرى: الأميركيون مصرون على أنه لم يتغير شيء، وما يزالون الأقوى في العالم. بينما يصر الخصوم وبعض الأصدقاء على أنّ كلَّ شيء تغيَّر، وعلى أنّ التفوق الاقتصادي بعد عقدين أو ثلاثة لن يكون مضموناً، أما التفوق العسكري فهو نسْبي وغير مفيد وسط النوويات المنتشرة. كوريا الصغيرة تستطيع الوقوف في وجه أميركا (بسبب وجود الصين في مقدمة المشهد). وإذا كانت أميركا تستطيع كسب حرب في العراق، فها هي روسيا تكسبُ حرباً في سوريا.