منذ ما يقارب الخمس سنوات أزال عناصر «تنظيم الدولة الإسلامية» السواتر الترابية التي شكّلت الحدود الرسمية بين العراق وسوريا معلنين محوَ الحدود المصطنعة التي رسمتها «القوى الاستعمارية الأوروبية» قبل زهاء قرن من الزمن من خلال اتفاق سايكس- بيكو. وعلى رقعة شاسعة نسبياً وممتدّة من ريف حلب غرباً الى الموصل شرقاً أعلن تنظيم «داعش» قيام دولة الخلافة. أما اليوم، فتكاد قوات «قسد» مدعومة من تحالف غربي عريض تُنهي آخر مناطق هذه الدولة والمتمثلة بقرية الباغوز.
 

كان معبّراً ما قاله قائد المدفعية الفرنسية المتمركزة في العراق حول المعركة الأخيرة: خلال الاشهر الستة الاخيرة سقطت آلاف القنابل على بضع عشرات من الكيلومترات المربّعة، وكانت نتيجتها تدمير البنى التحتية ومستشفيات وطرق وجسور ومساكن.

واضاف الجنرال الفرنسي قائلاً: كان يمكن تحقيق النصر بسرعة اكبر بكثير وبدمار أقل لو جرى إرسال قوات برية عددها ليس كبيراً ولكنها قادرة على حسم المعركة.

المفارقة انّ الجنرال الفرنسي أُحيل على التحقيق بتهمة الإدلاء بمواقف لا تُعتبر من اختصاصه.

ما من شك أنّ مشاريع كثيرة جرى ترتيبُها بين القوى الكبرى منذ اعتلاء ابو بكر البغدادي المنصة في جامع الموصل معلناً «دولة الخلافة».

وكان ترتيب المصالح في حاجة الى كثير من الوقت كما انّ إعادة رسم مشهد الشرق الاوسط كانت في حاجة الى دمار كبير ومخططات مخفيّة، تماماً كقرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب المفاجئ بانسحاب قواته من سوريا والذي أتبعه بمفاجأة اخرى بإبقاء زهاء 400 جندي هم في معظمهم من الخبراء التقنيين (تنصت- درونز واستخبارات) موزّعين بين التنف والمنطقة الآمنة الجاري التفاوض حولها شمال شرق سوريا، اضافة الى قاعدة اميركية تعتزم واشنطن إقامتها في العراق قرب الحدود مع سوريا والاردن ومجهّزة بأنظمة متطورة.

وطوال الوجود الاميركي العسكري في سوريا سقط للجيش الاميركي ستة قتلى فقط.

صحيح انّ ترامب يستعدّ لإعلان الانتصار على «داعش»، وكان قد سبقه الى ذلك أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله متعمِّداً التوقيت ومسمِّياً مَن يقف وراء ظهور «داعش» ومَن حاربه فعلاً.

لكنّ الحقيقة انّ تنظيم «داعش» لن يختفي من الوجود كما يعتقد البعض. فما زالت هناك حاجة دولية لتوظيف الارهاب في لعبة إنضاج المشاريع. وبالتالي «داعش» لم ينتهِ، بل عاد الى طبيعته الأصلية كتنظيم إرهابي لا يسيطر على ارض وسكان لكنه بالتأكيد قادر على تنفيذ هجمات ارهابية موجعة.

صحيح أنّ هذا التنظيم يخرج من آخر معاقله مرهَقاً ومفكَّكاً ومفلساً بعد مصادرة امواله، لكنّ كل ذلك يشجّع أجهزة استخبارات دول كبرى لاستثماره في مشاريعها بعدما أصبح ممسوكاً أكثر.

وخلال الاسابيع الماضية كان لافتاً الإعلان عن نقل أعداد من عناصر «داعش» الى منطقة الحدود الطاجكية في افغانستان. وفي مكان ليس ببعيد كانت واشنطن تجري صفقة مع حركة «طالبان» التي رعت تنظيم «القاعدة» وساعدته على تنفيذ هجمات 11 ايلول 2001.

هذا يعني في اختصار، تحضير افغانستان لنزاعات عنيفة على حساب الفريق الأفغاني الحاكم و«المتحالف» مع الاميركيين.

لكن من التبسيط حصر الامور في هذه البقعة فقط. فمدير الاستخبارات الوطنية الاميركية دان كوتس قال إنّ لـ«داعش» آلاف العناصر في العراق وسوريا، وللتنظيم ثمانية فروع واكثر من 12 شبكة وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم رغم خسائره الجسيمة.

وليس من باب المصادفة اعادة تسليط الضوء على تنظيم «القاعدة» عبر تخصيص واشنطن مكافأة بقيمة مليون دولار لمَن يساهم في القبض على حمزه بن لادن الوريث الشرعي لزعامة التنظيم الإرهابي.

في قمة هانوي بين الرئيسين الاميركي والكوري الشمالي فشل ترامب في انتزاع ورقة تفاهم هو بأمسّ الحاجة اليها. وقد يكون رفض كوريا الشمالية إعطاء ترامب اتفاقاً، هو لخشيتها من تدهور موقع ترامب بسبب الأزمة الداخلية الخانقة التي تكاد تطيح به.

وفي إسرائيل خسائر إنتخابية متلاحقة لشريك ترامب في «صفقة القرن» بنيامين نتنياهو. وهو ما يدفع للخشية من أن تؤدّي أزمتا ترامب ونتنياهو الى الدفع بهما لعملٍ جنوني تبقى ساحة الشرق الأوسط هي المثلى له.

كذلك قد يكون لإرهاب «داعش» بريقٌ قادر على جذب اهتمام وسائل الإعلام.

وخلال الاسابيع الماضية نجح الجيش اللبناني في اعتقال ثلاث مجموعات لـ«داعش» كانت قد نجحت بالفرار من جحيم المعارك في سوريا منهكة ومهزومة، وهي قصدت لبنان لالتقاط الأنفاس. لكنّ هذه العناصر كانت لو نجحت بالفرار بقيت فترة وجيزة في وضع الاستراحة قبل أن تعمل لاستعادة نشاطها.

باختصار زوال دولة «داعش» لا يعني أبداً زوال الإرهاب، فالحاجة اليه ما تزال موجودة.