يتخيل كثيرون أنّ معيار جديّة الدولة في مكافحة الفساد هو في عدد المسؤولين الذين يرونهم خلف قضبان السجون كتعبير عن هذه العملية، وتسود مقولة شعبوية جذابة عنوانها: «نسمع عن الفساد ولا نرى فاسدين».
 

في كثير من الأحيان يقول تاريخ لبنان مثل سواه من الدول، انّ الفاسدين الذين تتصدر أسماؤهم لوائح المتهمين والملاحقين، يتم انتقاؤهم بحسابات سياسية ولا يكونون غالباً إلا من درجة متدنية في تراتبية حجم المسؤولية عن الفساد ونوعها.

ويبقى هذا صحيحاً في كثير من دول العالم بما فيها الدول المتقدمة في تصدر قوائم الشفافية ومكافحة الفاسد، لذلك حلّ معيار آخر في حساب الفعالية في مكافحة الفساد هو حساب كمية المال المنهوب الذي تمت إعادته بموجب عمليات مكافحة الفساد ونسبته من المال المقدر كنتيجة للهدر في المال العام، والذي يتم قياسه بتقدير نوع وكم الخدمات والمشاريع التي تنفذها مؤسسات الدولة، والكلفة التقديرية لها بالمقاييس الدولية المعتمدة، وفي المقابل المبالغ المنفقة من الدولة المعنية على هذا الكم والنوع من الخدمات والمشاريع، فيظهر التقييم الذي يقول أن الدولة المعنية تعاني هدراً يقدر بـ 10% في موازنتها مثلاً أو 15% أو 20%، ولبنان في المناسبة يقع بين الدول الأكثر تعرضاً للهدر في موازناتها وإنفاقها منذ عقود ولم تسجل نسبة الهدر في الإنفاق اللبناني نسبة تقل عن 20% منذ ثلاثين عاماً.

عندما نتحدث عن نسبة هدر لا تقلّ عن 20% فهذا يعني مجموع مال مهدور أو منهوب يقارب المئة مليار دولار خلال الأعوام التي مضت منذ إتفاق الطائف، أي ما يعادل قيمة الدين العام الذي ينوء تحت حمله لبنان ويشكّل مع فوائده مصدرَ الضغط الرئيسي على الموازنات العامة، ويشكّل السببَ الرئيسي للعجز فيها، وعندما نتطلّع إلى نسبة الإنفاق على المشاريع العمرانية من أصل الدين العام سنفاجأ بأنه من أصل قرابة 100 مليار دولار ديون لم ينفق لبنان منها على المشاريع العمرانية أكثر من 20%، وأنّ الباقي هو تراكم خدمة دين وأكلاف إنفاق يعشش الهدر بين جنباته.

تُظهر أرقام البنك الدولي حول الفساد، حسب تقارير العام 2018 أنّ قيمة الأموال المنهوبة في العالم تبلغ 1500 مليار دولار سنوياً، وأنّ هذا الرقم يعادل عشرة اضعاف المبالغ المدفوعة كمساعدات للدول النامية، علماً أنّ تقارير البنك الدولي والأمم المتحدة تلتقي على أنّ هذه المساعدات نفسها تكون عرضة للنهب بعمليات مشبوهة مالياً بنسبة 20% إلى 40%، وأنّ المال المنهوب تحت عنوان الهدر والفساد يعادل 2% من إجمالي الدخل القومي لدول العالم، مع معدّل نسبة نموّ للإقتصاد العالمي دون 2% ما يعني أنّ الفساد يتكفّل بجعل النموّ العالمي للإقتصاد سلبياً، أي تحت الصفر، وبالتالي ما ينتجه العالم من نموّ يأكله الفساد، ويبقى العالم يراوح في مكان سلبي من النموّ، وما تظهره أرقام البنك الدولي نفسها، تقول إنّ توزّع نسب الفساد بين الدول المتقدّمة والدول النامية مختلّ بصورة كاسحة لحساب تجذّر الفساد في الدول الأقلّ نموّاً، كما تظهر دراسات منظمة الشفافية الدولية التي صدر تقريرها السنوي للعام 2018، وظهر فيه أنّ الدول النامية تحتل وحدها المراتب المئة للأكثر فساداً في القائمة التي ضمّت 176 دولة، وأنّ المراتب الـ20 الأولى للشفافية توزّعتها الدول المتقدمة، ومن المعيب أن يكون لبنان قد إحتلّ المرتبة 136 في هذه اللائحة، فيما دول عربية كالإمارات المتحدة وقطر والأردن، إحتلت مراتب بين الـ 60 و 24.

إذا كنا اليوم جميعاً متعلقين بالأمل بما سينتج عن مؤتمر «سيدر»، فعلينا أن نتذكر ما سبق للقول إنّ أموال «سيدر» نفسها قد تكون عبئاً جديداً يكبر به الدين ولا يزيد به النموّ، إذا خضع الإنفاق لذات المعايير التي أنفقنا عبرها ما سبق من أموال، وأنّ الأصل سيبقى في نظرة العالم لجدّيتنا وأهليّتنا للحصول على المزيد من الأموال هو في وقف مزاريب الهدر وإغلاق مزارع الفساد، والتعبير الأشد قوة وإقناعاً للداخل والخارج هو في إثبات القدرة على إعادة المال المنهوب وليس فقط في إظهار حركة سوق المتهمين بالفساد امام المحاكم.

من الخطأ طبعاً وضع ملاحقة الفاسدين وإعادة المال المنهوب، في مفاضلة بينهما، والواحدة تتمة للأخرى، إلّا عندما يقرّر القانون خلاف ذلك، أي تشجيع المتهمين بالفساد للحصول على وقف الملاحقة بحقهم إن قاموا بإعادة الأموال التي تطالهم إتهامات بالمسؤولية عن هدرها، ضمن مهلة معينة، كما فعلت الكثير من الدول وحققت نتائج باهرة، وفي مقدمتها روسيا التي أعلن رئيسها فلاديمير بوتين عن حوافز للمتهمين بلوائح التهرّب الضريبي وتهريب الأموال للخارج وسواها من الجرائم المالية، إذا قاموا بتسديد المبالغ التي تطالهم الإتهامات القانونية بتبديدها أو التهرّب من تسديدها.

هذا يعني أننا نحتاج قبل كل شيء إلى كشف حساب يقول أين هو الهدر، وتحديد المبالغ المتوجبة للدولة أو التي ضاعت عليها عن مكامن التسيّب والإهمال والهدر والفساد، وتحديدها بلوائح تتضمّن أرقاماً وأسماء، ليبدأ العمل منها، وإلّا سنبقى كمن يحرث الماء، فلا بذارَ يثبت، ولا زرعَ ينمو، ولا زهر ولا ثمر.