اللبنانيون كانوا في انتظارِ إنطلاقةٍ صاروخية للحكومة، خصوصاً بعد تسعة أشهر من الفراغ والتعطيل وحاجة البلد الى خطة طوارئ اقتصادية، ولكن ما لبثوا أن أُحبطوا مجدداً إثر ثلاث انتكاسات أساسية. أحكام الرأي العام سريعة وأحياناً مبرمة وتستدعي كثيراً من الوقت والجهد لتغييرها، وغالباً ما يحكم الناس على الانطلاقة، إنطلاقة عهد أو حكومة او مجلس نيابي، فإذا كانت الانطلاقة موفّقة يمنحها الرأي العام ثقته ويعطيها فترة السماح المطلوبة، وإذا لم تكن كذلك يبدأ بمحاسبتها ويغضّ النظر عن إنجازات فعلية حققتها.
 

فالأولوية يجب أن تُعطى دائماً للانطلاقة من أجل أن تعمل السلطة على أرض موتتية، حيث إنّ تحقيق بعض المشاريع الحيوية يمدّها بتأييد الناس وصبرها، فيما الانطلاقة المتعثرة تُفقد الناس ثقتها بقدرة هذه السلطة على تحقيق تطلعاتها الى التغيير. فلا يمكن القول مثلا إنّ عهد الرئيس ميشال عون وحكومته الأولى لم يحققا شيئاً، لأنّ ما تحقق من انتظام مؤسساتي وصولاً إلى إقرار قانون جديد للانتخابات وإتمامها ليس تفصيلاً، ولكنّ الناس كانت تنتظر شيئاً مختلفاً.

ومناسبة هذا الكلام طبعاً انطلاقة حكومة الرئيس سعد الحريري الثانية في عهد عون، حيث كان الاعتبار أو الانطباع انّ الحكومة ستعوِّض اللبنانيين الفراغ الطويل بإنجازات سريعة، ولكنها اصطدمت بأربع انتكاسات أساسية لحظة انطلاقتها:

ـ الانتكاسة الأولى، التسرُّع في تطوير العلاقات مع النظام السوري وتجاوز سياسة «النأي بالنفس»، وكأنّ الناس في حاجة الى إحياء ملفات خلافية بدلاً من التركيز على أولوياتها المعيشية وما يمكن أن تجنيه من «سيدر»، وبالتالي حصلت «دعسة ناقصة» على هذا المستوى، لأنّ المصلحة كانت تستدعي الابتعاد عن كل ما هو خلافي في المرحلة الأولى وتحديداً في الانطلاقة، خصوصاً انّ ايّ تطوير للعلاقة مع سوريا غير ممكن قبل استعادتها مقعدها في جامعة الدول العربية، ورفع الحظر الدولي عنها، لأن ليس من مصلحة لبنان فتح نافذة صغيرة مع دمشق وإقفال الأبواب مع عواصم العالم قاطبة، فضلاً عن انه لا يمكن القفز فوق تحفظات فئة لبنانية واسعة تصنِّف هذا الملف في الإطار الخلافي جداً، وتعتبر انّ أيَّ إحياء فعلي للعلاقة يجب أن تسبقه مراجعة جدّية من اجل ان تكون العلاقة من دولة الى دولة، وليس بدعم فئة ضد فئة أُخرى وتوسّل الظروف للعودة إلى لبنان.

ـ الانتكاسة الثانية، تمثلت في توتير المناخات السياسية من خلال تصوير أنّ هناك فئة لبنانية تؤيّد عودة النازحين وفئة أخرى تعارضها، والأسوأ تصوير انّ المعبر الى عودتهم هو التواصل مع النظام السوري لأهداف لا علاقة لها بالنازحين وتندرج حصراً بغايات تطبيعية، علماً أنّ هذا النظام لو كان في وارد إعادتهم لما خذل حلفاءه بدءاً من «حزب الله» وصولاً إلى «التيار الوطني الحر»، ناهيك عن أنّ عودتهم مستحيلة في حال لم يتوافر التمويل اللازم في اتجاهين: التمويل لإعادة إعمار المدن والقرى المهدَّمة تمهيداً لإعادة النازحين إليها، ومواصلة توفير المساعدات للنازحين بعد عودتهم في ظلّ غياب فرص العمل وقدرتهم على تأمين مستلزماتهم اليومية.

وهذا التمويل غير قادر النظام السوري طبعاً على تأمينه هذا في حال كان يريد عودتهم أساساً، ولا طهران، بطبيعة الحال، في ظلّ العقوبات الشديدة المفروضة عليها، إنما المجتمعان العربي والدولي وهما ليسا في وارد توفير هذا التمويل، على ما يبدو، قبل الحلّ السياسي، فيما لبنان لا يمكن ان يقبل ربط عودة النازحين بالحلّ السياسي الذي يمكن أن يتأخّر سنوات، ولكن، ويا للأسف، هذا هو واقع الحال، وبدلاً من تركيز الضغوط على المجتمع الدولي من باب انّ لبنان لا يستطيع أن يستمرّ في تحمّل هذا العبء، وجدها البعض مناسبة لتطوير العلاقات مع النظام السوري في غياب أيّ تفكير يرتبط بالمصلحة اللبنانية وعودة النازحين الضرورية.

ـ الانتكاسة الثالثة، ترتبط بمداخلة رئيس الجمهورية في الجلسة الأولى لمجلس الوزراء والتي أوحت بوجود نزاع صلاحيات بينه وبين رئيس الحكومة، وفي الوقت الذي التزم الحريري الصمت تحدثت أوساط مختلفة عن انزعاجه ضمناً من كلام عون، خصوصاً انه يشكّل إحراجاً له داخل بيئته، علماً أنّ كلام رئيس الجمهورية صدر عنه عفوياً، وجلسة الحكومة ليست الأولى في العهد، انما الأولى في الحكومة الثانية.

ـ الانتكاسة الرابعة، تكمن في المواجهة التي فتحها «حزب الله» مع الرئيس فؤاد السنيورة تحت عنوان وجهة إنفاق مبلغ الـ 11 مليار دولار إبان حكومته الأولى والثانية، هذه المواجهة التي أعادت توتير المناخات السياسية بين «المستقبل» و«حزب الله» واستطراداً بين السُنّة والشيعة، خصوصاً أن لا مصلحة للحزب في العودة إلى ملفٍّ لم ينجح حليفُه العوني في عزّ الاشتباك بين 8 و 14 آذار في إثبات ثغرة واحدة فيه، ولو نجح في ذلك لما قصّر في الذهاب إلى النهاية في هذا الملف، ومن المستغرب جداً أن يفتح الحزب هذه المواجهة في اللحظة التي يسعى فيها الى تصفير المشكلات مع جميع القوى السياسية ويتهيّأ لمرحلة جديدة عنوانها مكافحة الفساد، فيما المواجهة مع السنيورة تحديداً تعطي الانطباع أنها مسيّسة وتنعكس على صدقية توجّهه الجديد، فضلاً عن أنه يميز عن خطأ بين الحريري والسنيورة وكأنه يعتقد انّ في إمكانه الحكم على حقبة السنيورة من دون أن تتأثر علاقته بالحريري، وهذا انطباع خاطئ جداً، لأنّ العلاقة ستنزلق في اتّجاه التوتير مجدداً، والسنيورة الذي كان دخل مرحلة التقاعد السياسي المُبكِر سيعيد «حزب الله» شدَّ العصب حول شخصه ودوره.

ولا شك في انّ الانتكاسات الأربع أثّرت سلباً على انطلاقة الحكومة وكان في الإمكان تلافيها كونها لزوم ما لا يلزم، وأن تكون الانطلاقة مختلفة شكلاً ومضموناً، ولكن هذا لا يمنع إطلاقاً قدرة الحكومة على محو هذه الانتكاسات والتعويض سريعاً بإنجازات ممكنة ومتاحة في ظلّ مرحلة تبريد سياسية تفسح في المجال بتحقيق الإنجازات.