بدأ الشهيد رفيق الحريري حياته العامّة في لبنان مُعلِّماً للأجيال الشابّة وعلى نطاق واسع جدّاً، ومُحاولاً لإعادة إعمار ما دمّرته الحروب، وساعياً إلى تسوية سياسيّة تُنهيها وتُعيد بناء دولة جديّة فيه قادرة على توفير الأمن والاستقرار والرخاء والحريّة والديموقراطيّة، وعلى إنهاء الخلافات الطائفيّة والمذهبيّة أو على تنظيمها على الأقل. وعندما احتاج إليه لبنان رئيساً للحكومة بموافقة إقليميّة قريبة معروفة بدأ العمل من أجل تنفيذ “أجنداته” هذه وأخرى كثيرة غيرها. وقد كوَّن خلال سنوات انطباعاً عند اللبنانيّين يُفيد أنّه، إلى زعامته شبه الشاملة للسُنّة في البلاد، صار أيضاً زعيماً وطنيّاً بل مرجعيّة وطنيّة. طبعاً مع الوقت والاستنزاف الذي يتعرّض له “صاحب” أيّ موقع مرجعيّ رسميّ كبير بدأت جهات مُتضرّرة منه داخليّة وإقليميّة التشكيك في وطنيّة زعامته واتّهامه بالعمل “لأسلمة” لبنان، علماً أن مُسلميه لم يكونوا يومها موحَّدين في إطار زعامته. وجعل منه ذلك زعيماً شبه أوحد لأهل السُنّة. إلّا أنّه نجح بسبب شخصيّته أوّلاً وتفانيه في العمل لتحقيق إنجازات بغضّ النظر عن كلفتها بالاحتفاظ بتقدير ملحوظ من المسيحيّين، وأيضاً من الشيعة وإن بنسبة أقل وبتعاطف درزي قويّ جرّاء الزعامة الدرزيّة الأبرز لوليد بك جنبلاط.

 

هذا الرصيد ورثه، إضافة إلى أرصدة أخرى غير سياسيّة، نجله سعد الحريري بعد قتله في 14 آذار 2005. لكن مع الوقت ولأسباب عدّة معروفة بدأ الضعف يُصيب الرصيد المتنوّع. ثم أفسح غيابه عن لبنان قرابة أربع سنوات في المجال أمام بروز شخصيّات طامحة داخل “تيّار المستقبل” الذي أطّر الحريريّة السياسيّة قبل اغتيال مؤسِّسها، ومكّنها من تولّي مسؤوليّات حزبيّة وسياسيّة مُهمّة. وأفسح في المجال أيضاً أمام انخفاض نسبة شعبيّته داخل طائفته رغم أنّه لا يزال الأقوى فيها. واللّافت هنا هو أن عودته إلى البلاد لم تُساعده على استعادة ما خسره، لكنّها مكّنته من المحافظة على ما تبقّى وهو غير قليل. وبعد الحكومة الأولى التي ترأّسها بعد عودته، والانتخابات النيابيّة التي أُجريت في شهر أيّار الماضي بدأ العمل على جبهات عدّة لاستعادة أوضاعه ومواقعه. طبعاً عاد رئيساً للحكومة لكنّه لم ينجح بعد في ترتيب سوى وضع واحد في صورة تامّة هو عودة “تيّار المستقبل” إلى العائلة الحريريّة وحدها. فـ”الديوك” الذين كبروا في غيابه وراودتهم طموحات كثيرة حقّقوا بعضها وحلموا بتحقيق بعضها الآخر أُبعدوا في شكل أو في آخر. ومن هؤلاء النائب نهاد المشنوق المُتمسّك بالحريريّة “الأصليّة” والآخذ مسافة مع الحريريّة الموروثة. ومنهم أيضاً الرئيس فؤاد السنيورة والوزير السابق أشرف ريفي وإلى حدٍّ ما النائب السابق مصطفى علّوش، علماً أنّه بقي وفيّاً وأميناً لحريريّة الرئيس الشهيد ولوريثه إبنه سعد رغم أن ظروف غيابه وعودته، وكلّها كانت صعبة، كانت تسمح له بالسعي إلى تحقيق مصالحه. لكنّه لم يفعل. كان يعتقد أن الأمانة والوفاء ستُقابلان بالمثل وخصوصاً بعد الوعد بتوزيره في الحكومة الجديدة. لكن اعتقاده خاب وقد عبَّر عن ذلك إعلاميّاً وإن على نحو أبدى فيه الكثير من الاحترام لنفسه ولـ”التيّار” السياسي الذي آمن منه. ورغم ذلك عاد عن قرار غير نهائي اتّخذه بالابتعاد أو التجميد الذاتي. وعكس ذلك طينته الجيّدة. ونحن هنا لا نتكلّم عن السياسة التي يوافقه عليها البعض ويُعارضه فيها البعض الآخر بل عن الأخلاق. وتتجلّى عودة “الحريريّة السياسيّة” إلى عائلة مؤسّسها في رئاسة سعد الحريري لـ”المستقبل” في رئاسة النائب بهيّة الحريري لـ”كتلة نوّاب المستقبل” وفي شغل أحمد الحريري ابنها منصب الأمين العام له. وكان لشقيقه نادر دورٌ مُهمّ في هذا التيّار ومع رئيسه ولا سيّما في أثناء غيابه عن لبنان وبعد عودته. لكنّه أُقصي رسميّاً لا لغضب ابن خاله منه بل استجابة لطلب حليفٍ إقليمي رأى فيه خطراً ليس على الحريريّة بل على منهجها الإقليمي المعروف. علماً أن عودته إلى “الصف” ليست مستحيلة، لكنّها ترتبط باستمرار متانة العلاقة بين الرئيس ميشال عون والرئيس الحريري التي يرعاها الآن الوزير جبران باسيل والتي كان يُشاركه رعايتها نادر. كما ترتبط بعودة المتانة إلى علاقة سعد و”المستقبل” بالمملكة العربيّة السعوديّة أو ببقاء سيادة البرودة عليها لأسباب لبنانيّة شيعيّة ومسيحيّة في آن.

 

طبعاً سيعمل الرئيس على تركيز وضعه في “المناطق السُنيّة” وأبرزها إلى بيروت طرابلس العاصمة الثانية، بعدما انخفضت نسبة الاقتراع النيابي فيها إلى 31%، أي 90000 صوت كانت حصّة المستقبل منها نحو 25000، وحصّة حليفه السابق الرئيس نجيب ميقاتي فوق الـ 30000. وقد بدأ ذلك قبل الانتخابات بالتحالف مع النائب السابق محمد الصفدي ثم بتوزير زوجته بعده. وسيسعى إلى إعادة تحالفه مع ميقاتي الحريري أساساً أيّام والده الشهيد ولا سيّما بعدما تفاهم معه جزئيّاً في الموضوع الحكومي. لكن ميقاتي ليس “حبّتين” ويبقى مُنافساً جديّاً له. ولا يعتبر أن تسوية معه حصلت بعد توزير قريب منه في الحكومة.

 

وقد عبّر عن ذلك بالقول أمام الإعلام أنّ هناك ضرورة للبحث في العمق في هذا الأمر وتحديداً في الانتخابات النيابيّة القريبة في طرابلس مع الحريري. ويرى مُتابعون للأوضاع في العاصمة الثانية أن ميقاتي ربّما يطلب مقابلاً لتأييد النائب السابق جمالي فيها وتالياً لحسم فوزها. والمقابل هو إحلال شخص محل وزيرة الداخليّة ريّا الحسن في “هيئة اقتصاديّة” رسميّة تهتمّ بأمور طرابلس وقضاياها. ومن شأن ذلك إذا حصل عليه حصوله على غالبيّة طرابلس الناخبة.