ستمثّل زيارة وزير الصحة، عدنان جبق، إلى عكار علامة سياسية بارزة، في "تحوّل" عمل حزب الله وأدائه في الداخل اللبناني. تذكّر هذه الخطوة بالمشاريع التي كان يحرص الرئيس نبيه بري على تنفيذها في الجنوب، في السنوات العشرين الماضية، من مدارس وبنى تحتية وشبكات ري وغيرها، متعمداً أن تكون في المناطق السنية والمسيحية قبل الشيعية. بتلك المشاريع، التي كان يشرف "مجلس الجنوب"، وسّع برّي زعامته اللبنانية.

الدخول إلى "قلب" عكار
هكذا، يدخل حزب الله، مع تشكيل الحكومة الجديدة، إلى أكثر المناطق المحرومة، والتي تعتبر خزّاناً بشرياً سنياً. يقدّم الوعود بتحسين أوضاع المستشفيات هناك، وبعدم السماح لأي مريض أن يموت على أبوابها.

دخول الحزب إلى عكار، يعني في ما يعنيه، تكريس ما أسميناه قبل فترة "الولادة اللبنانية الجديدة" له، والتي ستكون مرتبطة بترتيب علاقة جيدة مع مختلف الطوائف (خدماتياً، على الأقل)، ما قد يحرج القوى الأخرى، التي لم تهتم لشؤون "مواطنيها" طوال الفترة الماضية. هذا الجانب الإنساني والاجتماعي، الذي يدخل منه الحزب بقوة إلى عمق الملفات اللبنانية، سيترافق مع دخوله سياسياً وإدارياً إلى مختلف القضايا العامة. وهذا، بلا شك، سيؤثر مباشرة مكامن نفوذ العديد من الأحزاب والقوى السياسية، أكانوا حلفاء أو خصوماً.

أخبار برّي المحزنة 
يحدث هذا، بالتزامن مع تداول أخبار غير سارّة، عن أحوال "حركة أمل"، ومحبي الرئيس نبيه برّي. فيوم انتخاب الرئيس ميشال عون، أعلن برّي موقفاً لافتاً، حينها، وقال:" لقد بدأ الجهاد الأكبر". ويبدو أنه لا يزال يجاهد. أطلق برّي موقفه هذا، لما اعتبره أنها التسوية الأولى والكبيرة، التي تُدبّر في لبنان، ولا يكون هو أحد شركائها أو صانعيها. وهذا مثّل مفاجأة سياسية، غير سارّة بالنسبة إليه. لم يحدث في لبنان، منذ وصول برّي إلى المجلس النيابي، أن كان معارضاً لتسوية رئاسية أو لانتخاب أي رئيس للجمهورية. المعركة السياسية التي فتحت يومها، لا تزال مفتوحة إلى اليوم. وتستمر بالتوسع، من الملفات السياسية إلى الملفات الإدارية والإجرائية، على غرار الإشكالات المتعددة التي وقعت بين برّي ورئيس التيار الوطني الحر،ّ جبران باسيل (بغض النظر عن التنافر الشخصي)، كالصراع الحاد على المناقلات الديبلوماسية، وعدم توقيع وزير المال لمخصصات وزارات يتولاها وزراء من التيار.

أرسى الوزير جبران باسيل، معادلة تنافسية وندّية واضحة مع رئيس مجلس النواب. وقالها باسيل في أكثر من مرة: "لا يمكن له أن يأخذ ما يريد من دون أن يعطينا ما نريد". جانب من الانتخابات النيابية الأخيرة، التي خاضها باسيل، كانت عناوينها تحمل معنى الهجوم على برّي وعلى "الفساد" (في سياق واحد!)، بالإضافة إلى "استعادة حقوق المسيحيين والتمثيل المسيحي" لا سيما في جزين والزهراني (أي حيث لبري نوابه ونفوذه الانتخابي). ولا مانع هنا للتذكير بالموقف الشهير الذي أطلقه باسيل تجاه برّي واصفاً إياه بـ"البلطجي". وما أوحى ذلك بنية إقصاء الرجل أو تهميش دوره الواسع والبارز.

يوم أطلق باسيل توصيفه بحق برّي، رفض الأخير أي علاقة معه، واشترط أن يعتذر وزير الخارجية علناً عن التوصيفات التي أطلقها، لكن ذلك لم يحدث. اضطر برّي في ظرف سياسي معيّن لاستقبال باسيل في عين التينة، بمبادرة من نائب رئيس مجلس النواب، إيلي الفرزلي. والأخير، مقرّب من برّي ومن عون، وهو أولاً محسوب على النظام السوري. هنا، يمكن الربط بين استقبال برّي لباسيل من دون تحقيق شروطه، وبين العامل السوري في ذلك. عوامل الضغط السوري لصالح باسيل على حساب برّي، هي التي حتّمت ترجيح كفة الأول. وهو يجيد الاستناد عليها لتمرير ما يريد. وليست المزايدة في ملف تطبيع العلاقة مع سوريا، وملف اللاجئين، إلا رهان باسيلي على اكتساح الحظوة السورية لبنانياً، بالاستناد إلى التحالف الاستراتيجي مع حزب الله.

أوراق برّي
ينشغل برّي بالكثير من الملفات الإجرائية، في مجلس النواب، وفي إدارات الدولة. كما أنه ينهمك بالهموم الداخلية في "حركة أمل". ويبدو أنه يعاني في ترتيب الشأن العائلي، في ظل الحديث عن خلافات بين بعض الأبناء وبين بعض الأجنحة في الحركة نفسها. يعمل برّي بجهد واضح لرص صفوف "حركة أمل"، انطلاقاً من صون المسار الاستراتيجي الذي اتخذه منذ زمن بعيد، والذي يقوم على مبدأ التحالف مع حزب الله، وعدم مخاصمته. يحرص برّي على حماية تاريخه ومسيرته، بواسطة شبكة "الحماية" التي يتمتع بها: حلفه الثابت مع حزب الله، تفاهماته الراسخة مع "المستقبل" و"الاشتراكي" (علاقته المميزة مع جنبلاط)، وحتى مع "القوات اللبنانية" (التي تفضله على حزب الله طبعاً) وأيضاً "المردة" وسليمان فرنجية، عدا عن الحرص الإيراني عليه، بالإضافة إلى الكثير من أوراق القوة بين يديه، التي يمكن عبرها تقديم "تنازلات" للنظام السوري، بما يديم وجوده السياسي. ولا شك أيضاً، أن أسرة برّي حاضرة في المشهد، ولا يمكن إغفال وجودها. جملة هذه العوامل الضاغطة والمهدِّدة، العامة والخاصة، تضغط على رئيس المجلس، والتي يدوزن تحركاته، للخروج من بين براثنها.

كان المؤشر على اضطراب الرئيس برّي وقلقه، هو كيفية تعاطيه مع القمة الاقتصادية، التي عقدت في بيروت، وقيادته حملة برأسين: إلحاحه على دعوة سوريا إلى القمة، وعدم مشاركته بأي اجتماع عربي ما لم تدع سوريا إليه، من جهة، وإصراره على منع حضور ليبيا للقمة، إلى حد استخدام الشارع ومشهد إسقاط العلم الليبي. في الموقف الأول كانت الغاية واضحة، وهي إعطاء العلاقة مع سوريا الأولوية على حساب أي أمور أخرى. وهذه تقتضي منه مواقف متكررة، لتكريس التقارب مع نظام الأسد، بعد شيوع معلومات عن سوء العلاقة بين الطرفين. أما الموقف الثاني، والتوتر الذي اتسم به تجاه ليبيا، فقد دلّ على إشكالية داخل "حركة أمل" نفسها. بل كان دليلاً على حاجة ماسة لاستنفار العصبية الحزبية، أو ما قد نسميه "العودة إلى القضية" و"الجذور".

الحماية والنظام السوري
استطاع التيار الوطني الحرّ، تسجيل نقاط عديدة في مرمى برّي، بالاستناد إلى العلاقة مع النظام السوري، خصوصاً أن ثمة انطباعاً يحمل بعض الصدقية، عن عدم رضى النظام على برّي، الذي لم يشارك في القتال بسوريا لحماية النظام، ولم تكن له مواقف واضحة في الأيام الأولى للثورة. لذلك، وبعد التأكد من انتصار النظام، وإمكانية استعادة بعض نفوذه في لبنان، كان محتّماً على برّي إطلاق مواقف متمادية في تأييد النظام. الإشارات السورية الغاضبة (حتى الآن) لا تبدو أنها بعيدة المدى، هي عبارة عن "انزعاج"، تستثمر فيه بعض القوى المحلية، التي تريد تصفية الحساب مع برّي. لكن، منظومة الحماية التي أشرنا إليها، تبدو حصينة ووافية راهناً. وبالتالي، حتى لو كان هناك عتب من النظام السوري عليه، فهو يبقى قادراً الصمود والمواجهة. وإيران لا تسمح للألاعيب السورية بضرب حلفاء إيران والحزب.

فميشال سماحة مثلاً دخل إلى السجن مجدداً بعد إطلاق سراحه، بقرار إيراني، وليس بقرار لبناني، لأن عملية سماحة كانت بقرار على غفلة من الحزب، و"الخطأ" السوري هنا لم يغطه حزب الله. فالعملية تمّت بمعزل عنه، وتتجاوز الخطوط التي رسمها حزب الله في لبنان. وهذا مؤشر، على أن النظام السوري لا يمكنه تصفية حساباته مع حلفاء للحزب، أو أي طرف آخر في لبنان، من دون موافقة الحزب. أي أن برّي "المحمي"، لا يزال قادراً على مواجهة أي محاولات لاستهدافه.

يحرص حزب الله على مراعاة برّي، لأن أي إشكال معه يعني إشكالاً داخل بيت الطائفة. وهذا ما لا يريده لا الحزب ولا رئيس المجلس، خصوصاً أن برّي لم يخرج يوماً عن "المسار الاستراتيجي"، لكن هنا ستبرز الإشكالية الجديدة: أي دخول للحزب إلى التفاصيل واليوميات اللبنانية، تعني أنه "سيأكل من صحن" برّي. فالحضور الشيعي في الدولة اللبنانية، كان كلّه في يد برّي، ومن صلاحياته. وهو الذي يبتّ في مختلف المشاريع والملفات والتعيينات وكل ما له علاقة بـ"حصة الشيعة". دخول حزب الله على خطّ مكافحة الفساد، والإنغماس أكثر في التفاصيل اللبنانية، تلقائياً، سيكون على حساب دور برّي بشكل أو بآخر، عن قصد أو من غير قصد.

درب "الخلاص" الوحيد
هذه الوقائع ستفرض على برّي مقاربة مختلفة وأداء مغايراً، أبرزها كيفية التقارب أكثر مع الجانب السوري. فهو لا يعرف الخسارة، ولا الانكسار. ولذلك، هو يعلم أن بعض القوى تسعى إلى تحجيم دوره، ومنافسته، أو مقارعته، في إدارات الدولة التي تعتبر "ملعبه الأساسي"، كما هي الحال في كل تصرفات الوزير جبران باسيل وتصريحاته، وفي نهج التيار الوطني الحرّ.

وإذا كان "التيار" يستقوي بالنظام السوري، وإذا كان حزب الله لا ينوي "ضرب" بري. فما لهذا الأخير سوى درب واحد، كي ينتصر ويتغلب مجدداً: الذهاب أكثر تجاه النظام السوري، وإعطائه أكثر مما يطلب.