لم تكن الجلسةُ الأولى لمجلس الوزراء مشجِّعة، ولا الجلسة التي سبقتها لإقرار البيان الوزاري، ولا مصلحة في الإستمرار على هذا النحو إذا كان الهدف «أكل العنب لا قتل الناطور».
 

الإنطلاقة الحكومية بدأت متعثرة في ظلّ وجود انطباع، يجب تبديدُه، هو انّ هناك توجّهاً مُثلَّث الأضلع: إستبعاد النقاش السياسي، الإلتفاف أو التصدي لكل مَن سيحاول خرق هذا التوجه، إمرار بنود جدول الأعمال بلا نقاش واللجوء الى التصويت عند الحاجة.

وأيُّ توجه من هذا النوع في حال وجوده فعلاً يعبِّر عن واقع غير صحّي ولا مصلحة في استمراره، لأنّ مجلس الوزراء هو سلطة القرار في البلد واختصار دوره غير ممكن، ولا يجب إعطاء الانطباع أنّ اللبنانيين عاجزون عن الحوار والنقاش داخل المؤسسات، إذ من حق كل فريق أن يسجّل وجهة نظره بمسؤولية وطنية ربطاً بإقتناعه، ومن حق الطرف الآخر ايضاً أن يعرض وجهة نظره بالمسؤولية نفسها.

ويخطئ أيُّ فريق إذا اعتقد أنّ في إمكانه إسكات الآخر، فيما الحوار الهادئ يشكّل المدخلَ لمعالجة الخلافات متى وُجدت، و«البروفا» التي قدِّمت لا تطمئن، ولكنها في الوقت نفسه لا تخيف أحداً، لأنّ ما يجب أن يناقَش وطنياً وسياسياً وإصلاحياً سيناقش، والمغزى الأساس من النقاش في الجلسة الأولى لمجلس الوزراء إيصال الرسالة، وقد وصلت، وفحواها أنّ سياسة السكوت والتطنيش وغضّ النظر غير موجودة، وأيُّ خرق لسياسة «النأي بالنفس» أو الدستور والقوانين المرعيّة سيواجَه بتحفُّظ وتسجيل موقف واضح وشديد اللهجة، ولا تنفع محاولات حرف النقاش في اتجاه اتهامات ملفّقة وملفات غير مطروحة.

وطالما الشيء بالشيء يذكر، وانطلاقاً من مبدأ «الاعتراف بالخطأ فضيلة»، أقدم «حزب الله» من حيث لا يتوقع أحد على الاعتذار عن المواقف التي أطلقها النائب نواف الموسوي في سابقة في ممارسته السياسية، وبالتالي ما الضير إذا اعترف الوزير الياس بوصعب أنه اجتهد أكثر من اللزوم في موقفه، وإذا أقرّ الوزير صالح الغريب أنّ حماسته لإعادة النازحين دفعته الى تجاوز مجلس الوزراء؟

وما الضير لو أقفل رئيس الجمهورية النقاش بنفسه وقبل أن يثير الموضوع أيُّ طرف من الأطراف بأنّ ما حصل قد حصل وأنه سيكون العين الساهرة على تطبيق سياسة «النأي بالنفس»، وان يذكر رئيس الحكومة أنّ الخروقات المتكررة لهذه السياسة دفعته الى الاستقالة في الحكومة السابقة والى إصدار بيان مفصّل عن «النأي بالنفس» على أثر عودته عن الاستقالة تمّ اعتمادُه في البيان الوزاري الحالي؟

والأسوأ أنه بدلاً من الاعتراف بالخطأ والالتزام بسياسة النأي بالنفس تمّ تبرير ما لا يُبرَّر وحُرِف النقاش في اتجاه أنّ هناك مَن يريد إعادة النازحين مقابل مَن لا يريد إعادتهم، وهذا المنطق غير صحيح ولا يمتّ الى الواقع بصلة، لأنّ ما من أحد يقف عائقاً أمام عودتهم، والدليل أنّ كل محاولات الدولة اللبنانية ممثلة برئيس الجمهورية و«حزب الله» واللواء عباس ابراهيم لم تفلح في إعادة سوى بضع مئات من غير المسجَّلين في لوائح الأمم المتحدة، فيما حتى المسجَّلين من فئة المؤيّدين للنظام السوري فضلوا البقاء على العودة الى بلادهم لكي لا يفقدوا المساعدات التي توفرها لهم المنظمة الأممية في لبنان، خصوصاً أنهم سيفتقدون بعودتهم الى المسكن والعمل.

فلو كان في استطاعة حلفاء النظام السوري إعادة النازحين لما تردّدوا، ولكنّ هذه العودة متعذّرة من دون مساعدة المجتمع الدولي وإقناعه بضرورة أن يواصل توفير المساعدات للنازحين بعد عودتهم الى سوريا، كما انها متعذّرة بسبب أنّ النظام لا يريد إعادتهم لأسباب ديموغرافية، ولكن في مطلق الحالات لو كانت المسألة بالبساطة التي يطرحها البعض وربطها بالعلاقة مع النظام السوري لكان يُفترض أن تكون عودتهم قد تحققت من دون مبادرة روسية ولا سعي للضغط على المجتمع الدولي.

وبما أنّ عودة النازحين لا علاقة لها بالتواصل مع النظام السوري أو بعدم التواصل، علماً أنّ القنوات بين البلدين ما زالت قائمة، فإنّ كل ما يُثار مسيّسٌ بامتياز وخلفياته واضحة وترتبط بحاجة النظام السوري الى فكّ عزلته الخارجية وليس أمامه سوى الساحة اللبنانية، والدليل الفاقع هو ما حصل في القمة الاقتصادية العربية التي تمّ تحويلُها «قمّة عودة النظام» الى الجامعة العربية.

ويُفترض بالقوى السياسية الأساسية أن تكون قد وصلت الى إقتناع بأنّ تحسين شروط تموضعها الوطني غير ممكنة، فإما التقيُّد بالتوازن الحالي بعيداً من التشاطر ومحاولات تعديل الستاتيكو الراهن، وإما تجدُّد الخلافات كما في جلسة مجلس الوزراء الأولى، وأما تفرُّد «القوات اللبنانية» بالمواجهة فلا يعني أنّ تيار «المستقبل» و«الحزب التقدمي الإشتراكي» ليسا مع هذا التوجه، بل سياق الجلسة لم يسمح لهما بتسجيل مواقفهما التي تتكامل مع موقف «القوات».

فالانطلاقة الحكومية لم تكن موفّقة، ولكن هذا لا يعني أنّ ما حصل سيكون القاعدة، بل يمكن جعله مجرد استثناء في حال تمّ الالتزامُ بالبيان الوزاري واستبعاد الملفات الخلافية وفي طليعتها العلاقة مع النظام السوري، وأسوأ ما في المحاولات الجارية لتطبيع العلاقة مع هذا النظام أنها لا تأخذ في الاعتبار وجهة نظر فريق لبناني وازن، وتحصل عن طريق التهريب والتذاكي وصولاً الى تغليب توجه على آخر، الأمر الذي لن يتحقق وسيؤدي إلى توتير الوضع وتسخينه، فيما المصلحة الوطنية تستدعي التركيز على الاستقرار والانتظام المؤسساتي وإعطاء الأولوية للملفات الحياتية والمعيشية.

فخطأُ خرق سياسة «النأي بالنفس» لا يعالج بخطأ آخر مزدوج من خلال إفراغ مضمون «النأي بالنفس» وحرف النقاش في اتجاه ملف النازحين بنحو معتور وتضليلي وكاذب، ولكن يمكن التعامل مع التباين المستجد بنظرة إيجابية مؤدّاها أخذ العبرة ممّا حصل من أجل حذر أكبر وخطوات مدروسة أكثر، ومواقف متقنة.

وعلى رغم أنّ الخلاف داخل الحكومة استأثر بمعظم الاهتمام السياسي، إلّا أنّ تعامل «حزب الله» مع مواقف الموسوي أثار ويثير تساؤلات لا أجوبة حاسمة عليها بعد: لماذا اعتذر من المسيحيين على خلفية المساس برمزية شهادة بشير الجميل وطريقة وصول الرئيس ميشال عون الى قصر بعبدا، فيما اعتبر 7 أيار 2008 «يوماً مجيداً»؟ وهل الاعتذار يرتبط بتجنّبه الدخول في مواجهة مع المسيحيين؟ أم ينمّ عن نهج سياسي جديد بدأ «حزب الله» باتباعه؟

وهل كان «الحزب» مضطراً مثلاً إلى الكشف عن تجميد نشاط الموسوي سنة كاملة؟ ومَن كان ليعرف أو يكتشف أو يقدِّر مسألةً من هذا النوع لو الحزب قرّر التكتمَ على قراره؟ وما الهدف من هذا الإجراء طالما أنّ الاعتذار قد تمّ والصفحة طويت والموسوي ساهم بنفسه في الاتصالات لطيّ هذه الصفحة؟ هناك ما يستحق فعلاً المتابعة في سلوك «حزب الله» ومواقفه.