النصيحة التي كانت تُوجّه إلى “العريس” بعد انتهاء مراسم زفافه وقبل “ليلة الدخلة” كما يُسمّيها إخواننا المصريّون هي: إفسخ “البسَيْن” أي الهرّ قبل “الدخول”. وكان المقصود بها دعوة الزوج إلى امتلاك زمام القيادة الزوجيّة وإلى أن يكون رأس العائلة فعلاً أي بالممارسة والقرار وكل أمر آخر. لماذا أبدأ “الموقف هذا النهار” اليوم بهذه النصيحة؟ لاقتناعي بأن فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون أراد أن يُثبت بالممارسة أنّ الحكومة التي وُلِدَت بعد نحو تسعة أشهر من إجراء الانتخابات النيابيّة ستكون الأولى في عهده كما وعد اللبنانيّين، وخصوصاً بعدما استغلّ خصومه وهم كثيرون ومتنوّعون تأخير تأليفها للإشارة إلى فشل هذا العهد أو إلى اقترابه من نهايته، وبعدما خاف حلفاؤه ومناصروه أن لا يكون على قدر طموحاتهم والآمال. وقد نجح في ذلك إلى حدٍّ بعيد بطريقة إدارة الجلسة الأولى للحكومة قبل يومين، إذ بادر، بعد انتهاء الوزراء من مناقشة جدول الأعمال وبدئهم مناقشة القضايا السياسيّة الخلافيّة، وبلهجة حادّة وحازمة إلى رفع الجلسة بعد مُطالعة بدا واضحاً أنّها مُعدّة سلفاً لاختتام سيناريو مُعدّ سلفاً أيضاً لإدارتها، الهدف منه إبلاغ القاصي والداني والحليف والصديق والخصم والعدوّ أن عهده بدأ، وأن الأمر له لكونه الوحيد من بين “الثلاثي الرئاسي” الذي يُقسم اليمين على الدستور وعلى البلاد.

طبعاً يعرف اللبنانيّون على تنوّعهم القضيّتين اللّتين دفعتا عون إلى الإعداد للجلسة الحكوميّة الأولى على النحو المشروح أعلاه، وهما: موقف لوزير الدفاع من الوضع في سوريا اعتبره البعض مُناقضاً لسياسة النأي بالنفس التي اعتمدتها الحكومة في بيانها الوزاري ونالت الثقة على أساسه، وزيارة وزير الدولة لشؤون النازحين السوريّين دمشق واجتماعه بمسؤول وربّما أكثر فيها. وهم لا يعترضون أبداً على عودة هؤلاء السريعة إلى بلادهم نظراً إلى الأخطار الكثيرة والمتنوّعة لبقائهم على لبنان. كما لا يعترضون على الاتصال مع سوريا الذي هو موجود أصلاً سواء عبر التمثيل الديبلوماسي أو عبر التنسيق الأمني والزيارات، وعبر شركاء في الحكومة يربطهم بسوريا تحالف سياسي – أمني – عسكري – قومي وربّما إيديولوجي. ولذلك لم يكن ذكر فتح الإمارات سفارتها في دمشق موفّقاً لأنّها كانت مقفلة بخلاف سفارة لبنان. لكن قسماً مُهمّاً منهم لا يقبل استخدام القضيّتين من أجل تغليب أجندة سياسيّة – وطنيّة – شخصيّة – طائفيّة – مذهبيّة على أجندات أخرى سياسيّة ووطنيّة وشخصيّة وطائفيّة ومذهبيّة أيضاً. ولا يقبل في الوقت نفسه استغلالهما وقضايا أخرى كثيرة من أجل اختراع أعراف واستعادة نصوص قديمة بعد جعلها أعرافاً جديدة، لمسّ “اتفاق الطائف” وخرق الدستور الذي انبثق منه وتهيئة الأجواء في البلاد أمام صيغة جديدة للحكم. علماً أن النجاح في هذا الأمر صعب جدّاً لا بل يُعيد أجواء الحروب الأهليّة وغير الأهليّة إلى لبنان لأن لكل من شعوبه رأياً في هذه القضيّة أو موقفاً منها قد يختلف مع آراء ومواقف شعوب أخرى حليفة كانت أو خصماً أو عدوّاً. فهل يقبل “حزب الله” و”حركة أمل” عودة العصر السياسي المسيحي إلى لبنان التي يحاولها عون بتحريض من وليّ عهده الوزير جبران باسيل؟ والجواب هو قطعاً كلّا. وهل يقبل السُنّة بكل اتّجاهاتهم وأبرزها “المستقبل” ذلك؟ والجواب هو أيضاً كلّا. طبعاً يخشى السُنّة والمسيحيّون ما يبدو انتقالاً للبنان إلى عصر سياسي شيعي. لكن معالجة هذه الخشية وغيرها تكون بتطبيق الطائف وبسدّ الثغر فيه وبناء الدولة المدنيّة التي نصّ على فتح بابها، بإلغاء الطائفيّة السياسيّة وانتخاب مجلس نوّاب غير طائفي ومذهبي ومجلس شيوخ يمثّل العائلات الروحيّة كلّها ويكون ضماناً بتكامله مع الأوّل لها وللدولة وللكيان.

انطلاقاً من ذلك لا بُدّ من إيراد عدد من الملاحظات على موقف فخامة الرئيس في الجلسة الأولى للحكومة في عهده البادئ منذ أكثر من سنتين وذلك بهدف التصويب. أولاها وجوب عودة النازحين السوريّين إلى بلادهم وإن من دون تسوية سياسيّة. فهل يستطيع لبنان فرض هذه العودة؟ وهل شعوبه مُتَّفقة عليها؟ وقبل ذلك هل تعرف دولة لبنان حقيقة موقف نظام سوريا من عودتهم؟ والمعلومات المُتوافرة عن هذا الموضوع تُشير إلى أنّ الرئيس الأسد يميل إلى عودتهم لتأمين فوزه في الرئاسة بعد التسوية، لكنّه لم يتّخذ بعد قراراً نهائيّاً بها لأن “الأجهزة” عنده لا تُشجِّع على ذلك في هذه المرحلة لأسباب متنوّعة. وهذا أمر يعرفه حلفاء قصر بعبدا. ولذا يُصبح السؤال: ما القصد من الإصرار على هذا الأمر؟

وثانية الملاحظات: رئيس الجمهوريّة يُقسِم وحده اليمين الدستوريّة، لكنّه غير مسؤول، فالمسؤوليّة مُناطة بمجلس الوزراء وهو السلطة التنفيذيّة التي ليس رئيس الجمهوريّة جزءاً منها. فهل تصرّف رئيس هذه السلطة سعد الحريري في جلسة الأمس وفقاً لصلاحيّاته؟ ولماذا صمت ولم ينبس ببنت شفّة؟ كان في إمكانه موافقة الرئيس على موقفه أو الاعتراض عليه. أمّا صمته فكان خرقاً لصلاحيّاته.

وثالثتها: قال الرئيس عون: لا أحد يُزايد عليّ في مصلحة لبنان العُليا. أنا أعرفها وأُحدّدها وأنا مسؤول تجاه شعبي. والسؤال: أليس لكل شعب في لبنان ولكل زعيم طائفة ومذهب وحزب مصلحة عُليا للوطن مناقضة للمصالح العُليا في نظر الآخرين؟ أليست هذه مشكلة لبنان الأبديّة الأزليّة؟

في النهاية سياسة “الأمر لي” لا تمشي في لبنان. فنظامه غير ديكتاتوري وغير عسكري وإن تربّع على سدّة رئاسته عسكريّون. وتحميل عسكريّة عون وحدها مسؤوليّة سلوكه السياسي في غير محلّه، إذ أن الراحل اللواء الرئيس فؤاد شهاب كان مُتميّزاً والعماد الرئيس ميشال سليمان كان مختلفاً. وربّما يكون من الأفضل عدم جعل رئاسة “العسكر” للبلاد “عُرفاً”.