في العشاء الذي دعت إليه السفارة السعودية في بيروت، في فندق فنيسيا، كان السلام ودّياً بين الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط، لكن "الموقف" بينهما لم يكن كذلك. وجّه جنبلاط كلاماً قاسياً للحريري على خلفية خياراته (في المسار الحكومي خصوصاً)، وعبّر أمام بعض الحاضرين عن انزعاجه مما حدث. وعلى الرغم من ذلك، كان الجلوس على طاولة واحدة، مساهماً في ترطيب الأجواء، نسبياً، على المستوى الشخصي، من دون حلّ المسائل الخلافية. وساطات عديدة دخلت على خطّ العلاقة بين جنبلاط والحريري، بهدف ترتيب العلاقة بينهما. والرسالة السعودية، بعد الغداء الذي تمّ في منزل كليمنصو بين جنبلاط والموفد الملكي السعودي نزار العلولا، تمنّى فيها الأخير بعدم ترك الخلافات تتمدد، وبوجوب حلّها وتجاوزها، بعيداً من الإعلام وعبر قنوات تواصل مشتركة.

رفض فكرة "الوسيط"

كان من المفترض أن تعقد خلوة بعد عشاء "فنيسيا"، لكن الظروف لم تسمح بذلك. إذ غادر الحريري سريعاً. لاحقاً كان لدى جنبلاط جواب واحد أمام كلّ مراجعيه وزواره، بأنه حريص على العلاقة مع الحريري، ولا يريد التدخّل في حساباته وتحالفاته، وهو لا يعارض تفاهمه مع رئيس التيار الوطني الحرّ، جبران باسيل. لكنه أيضاً لا يسمح بأي عملية لاستهدافه من قبل البعض، بالإستناد إلى العلاقة مع الحريري. وفي الجواب لكل المساعي التقريبية بين الرجلين، كان يعتبر جنبلاط أن ليس هناك من داع لها، بمعنى أنه لا حاجة (بالنسبة إليه) لدخول وسيط في علاقته مع الحريري، خصوصاً وأنه لا يريد فكرة وجود وسيط محلّي على خطّ هذه العلاقة، التي فيها الكثير من الخصوصية (الإنسانية) التي تتغلّب على أي اختلافات أخرى.

أبلغ جنبلاط بعض المعنيين بأن لا حاجة لأي وسيط، وهو مستعد للقاء الحريري بنفسه، والبحث معه بكل الملفات والأفكار. يفضّل جنبلاط التشاور والنقاش المباشر بعيداً عن الوسطاء، ولتأكيد أهمية مضمون النقاشات. وعلى هذا الأساس أبدى الحريري تجاوباً مع فكرة جنبلاط، ووجه دعوة له على العشاء. فقرر جنبلاط الذهاب إليه، حاملاً معه كل الملفات والأفكار والملاحظات، التي تتعلق بالمرحلة السابقة. ذهب جنبلاط بنية إيجابية، هادفة إلى إعادة تعزيز العلاقة، ووصل ما انقطع. لكن من دون التنازل أو التخلّي عن أي من ملاحظاته ومطالبه، وبالأخص، أنه أصبح على يقين بأن ما يجري هو عملية استهداف مباشرة له، تصل إلى حدود المساعي للتصفية السياسية. وهذأ ما لن يسكت عنه وسيواجهه.

خطورة طريق دمشق

وحساسية هذه الإشكالية، أن هناك من يعتبر أن الساعين إلى تطويق جنبلاط، وتصفية الحسابات معه، ينطلقون بتحركاتهم مستندين إلى علاقتهم بالحريري! وبالاتكال على إهمال الحريري  في حساباته السياسية بكل ما يتعلق بـ"حلفائه" الأساسييين. وعلى هذا، قرر جنبلاط الذهاب بملء ثقته بنية تسمية الأمور بأسمائها، حاملاً معه ملفّاً يتعلّق بكل التجاوزات التي وقعت، ولكي يعبّر عن الهواجس، التي ستطال الجميع، وإن كانت اليوم تتركز عليه وحده. إذ أن الظاهر وما يبدو في الواجهة، هو الاستهداف المباشر لجنبلاط. لكن مسار الاستفراد، سيؤدي منطقياً وحكماً - فيما بعد - إلى استهداف الحريري نفسه، بحال لم يتخذ موقفاً جازماً وحاسماً، لا تساهل فيه مع أدنى التفاصيل، التي بدأ البعض بتكريسها، سواء بملف اللاجئين السوريين أو بملف تطبيع العلاقات مع النظام السوري والزيارات المتكررة إلى دمشق.

وهذا تطوّر حتّم تسريع اللقاء بين الرجلين، وتنسيق المواقف، أولاً لعدم ترك الحريري وحيداً في مواجهة هذا المسار، لا سيما في ظل محاولات البعض لوضعه تحت الأمر الواقع، والإيحاء بأنه موافق ضمنياً على المواقف، تجاه سوريا والزيارات إلى دمشق. ويأتي العشاء بين الرجلين، في لحظة تحرّك لافت وواسع للعدد من الديبلوماسيين الغربيين على الساحة اللبنانية، كانت قد بدأته السفيرة الأميركية من السراي، بموقفها الصريح الذي أطلقته تجاه حزب الله، واستتبعته بجولة على مختلف القوى السياسية، وتلاه تحرّك للسفير البريطاني، ما يوحي أن هناك توافقاً أميركياً بريطانياً على الاعتراض على مسار الحكومة.

تبادل العتب

أكد جنبلاط للحريري الحرص على العلاقة معه، وضرورة ترتيب كل الخلافات، على قاعدة عدم السماح باستهداف الحريري، أو استهداف جنبلاط، خصوصاً أن الحكومة ستكون مقبلة على الكثير من المطبات والأفخاخ، التي ستواجه الحريري شخصياً، وسيكون حينها بحاجة إلى من يدعمه بملفات متعددة، ليس فقط سياسياً، من مثل العلاقة مع النظام السوري، ولكن أيضاً من خلال إصرار بعض القوى على فتح ملفات الفساد، والتي سيكون مستهدفاً فيها الحريري، وفريقه القديم والجديد، وبالتالي سيكون استخدامها السياسي بغية تطويق الحريري أكثر، لتطويعه.

استعرض الرجلان كل المرحلة السابقة، وتبادلا العتب على بعضهما البعض، منذ قانون الانتخاب إلى الإنتخابات النيابية، وتشكيل اللوائح، وصولاً إلى تشكيل الحكومة، وجرى الاتفاق على "ترتيب" الخلاف، وتفعيل عمل اللجان السياسية والفنية بين الطرفين، للتنسيق بمختلف المجالات، سياسياً واقتصادياً، وبخاصة بموضوع الكهرباء. تحدّث جنبلاط بكل صراحة، وشدد على ضرورة إعادة تحديد الأولويات، على الرغم من التفهم لحسابات الحريري. لكن بشرط، أن لا تكون على حساب القوى الأخرى. وتقدّم جنبلاط بجملة مطالب وعناوين للحريري، من أجل ترتيب الخلافات، ووقف عملية الاستهداف التي يتعرّض لها، سواء في النهج العام أو في السياسة اليومية أو داخل إدارات الدولة. وبذلك، وضع جنبلاط الكرة لدى الحريري وخياراته، والتي ستظهرها الأيام المقبلة، وعلى أساسها سيتقرر أي نمط من العلاقة ستحكمهما.