يقول وزيرٌ سابق واكب عن كثب ملف النازحين السوريين، في فترات معينة، إنّ هناك قوى دولية وإقليمية تعارض إعادة هؤلاء إلى بلادهم، ما دامت خرائط النفوذ هناك غير واضحة. وعلى رغم من أنّ هذه القوى تتنازع في سوريا، فإنّ لها مصلحة مشتركة في تأخير العودة. ولذلك، قد يقوم الجانب اللبناني بجهود لتحقيق خروق في الملف، من خلال فتح خطوط مع حكومة الرئيس بشّار الأسد. ولكن، هل يمكن توقّع نتائج قبل أن ينضج الحلّ الحقيقي؟
 

تبلَّغ لبنان الرسمي حتى اليوم عدداً لا يُحصى من الرسائل المباشرة وغير المباشرة، عبر الأقنية الديبلوماسية، من عواصم دولية وإقليمية ومنظمات دولية معنية، أنّ الأولوية حالياً هي لتطبيع إقامة النازحين السوريين في المناطق التي ينتشرون فيها وليس لعودتهم إلى بلدهم، لأنّ هذه العودة ليست آمنة حتى إشعار آخر.

أكثر الذين جاهروا بهذه الحقيقة، نتيجة معلومات توافرت لديه، هو الفاتيكان. إذ أبلغ وزير خارجيته بول ريتشارد غالغر الى الوفد اللبناني الذي زاره في الخريف الفائت، أنّ المجتمع الدولي بكامله يرفض عودة النازحين قبل الوصول إلى المرحلة الانتقالية هناك، وهي ستتأخّر. وأنّ واشنطن تتبنّى هذا الاتجاه، ولذلك إنّ المتابعة المُجْدِية للملف لا تكون إلاّ معها.

وفي الموازاة من الجانب السوري، يقول غالغر، يرغب الأسد في أن يكون رئيساً على عدد سكان أدنى من العدد الأساسي. (النازحون نحو 12 مليوناً، مناصفة تقريباً بين الداخل والخارج، أي أكثر من نصف عدد السكان الأصليين، وهو 23 مليوناً).

هذه الشهادة البالغة الخطورة لم يجاهر بها سوى الفاتيكان، لأنّ لا مصلحة له في المناورة وتغطية الأمور كسواه. وعلى العكس، هو أراد تنبيه اللبنانيين إلى مخاطر ملف النازحين على الكيان اللبناني الصغير والمترنِّح تحت تأثير العواصف الإقليمية.

ولكن ما يثير استغراب بعض الأوساط هو الآتي: إذا كان الأوروبيون يعيشون هاجس تدفُّق المهاجرين غير الشرعيين، عبر المتوسط، فلماذا يريدون إبقاء النازحين السوريين في لبنان حيث يسهل عليهم الانتقال بحراً إلى أوروبا، بدلاً من إرجاعهم إلى بلدهم وضمان ابتعادهم أكثر عن بوابة المتوسط؟

البعض يبرِّر الموقف الأوروبي بالقول، إنّ النازحين، إذا عادوا إلى بلدهم في ظروف اقتصادية وأمنية ونفسية سيئة، فإنّهم سيضطرون إلى مغادرة سوريا مجدداً، والهرب إلى أوروبا عبر تركيا أو سواها. ولذلك، يفضّل الأوروبيون تثبيت هؤلاء حيث هم اليوم في مناطق نزوحهم وتأمين أفضل ظروف العيش لهم لكي يستقرّوا ولا يغادروا.

المطلعون لا يقتنعون كثيراً بهذه الذريعة، ويقولون إنّ الموقف الدولي عموماً تجاه النازحين يتميَّز بالخُبث. وهم يعتقدون أنّ الأوروبيين يلتزمون الاتجاه الذي تدعمه الولايات المتحدة، والقاضي بتأجيل عودة النازحين إلى حين تبلور التسوية السياسية.

ولكن، في الموازاة، هذا الموقف يلتزمه الأسد أيضاً، من زاوية مصالحه، عندما يقول إنّه مستعدّ لتسهيل عودة النازحين، لكن هناك حاجة ماسّة إلى تمويل ضخم غير متوافر وإعادة إعمار للمناطق المهدّمة.

ترجمة موقف الأسد أن لا عودة في المدى المنظور. فالتمويل وإعادة الإعمار لا يتحقَّقان إلا بتسوية سياسية شاملة تغطيها القوى الدولية والإقليمية. وعلى الأرجح، لن يتمّ تمويل العودة إلاّ عن طريق أثرياء العرب.

وهؤلاء هم اليوم في حال قطيعة مع الأسد، ولن يُقدّموا المساعدات إلاّ إذا ارتاحوا إلى التسوية السياسية في سوريا، أي إذا طبَّعوا علاقاتهم بالأسد.

وفي المحاصصة بين القوى الدولية والإقليمية والعربية في ملف إعادة الإعمار، سيرفض أثرياء العرب أن يقدّموا الدعم من دون إشراكهم بفاعلية في الاستثمارات الإعمارية.

وفي أي حال، كل المؤتمرات التي عُقِدت لمعالجة الأزمة السورية تعاطت مع ملف النازحين بمنطق تطبيع إقامتهم حيث هم، تحت شعار توفير الأمان لهم.

وفي مؤتمر «سيدر» تمّ تكريس 30% من الوظائف، في المشاريع المخصصة للبنان، والمشمولة بالقروض الدولية، للنازحين السوريين حصراً.

ويبدو المسؤولون اللبنانيون أسرى هذه الخيارات الدولية، لأنهم يتلهَّفون للحصول على أموال «سيدر»، وقد تجاوزوا لذلك كل خلافاتهم وسرَّعوا ولادة الحكومة وحرَّكوا مجلس النواب، ويحاولون تقديم براءات الذمة، سواء باستعراضات محاربة الفساد في جلسات الثقة أو بإشارة الحريري إلى «العودة الطوعية» لا «الآمنة» للنازحين أو بلقاءات التنسيق مع ممثلي المؤسسات الدولية.

لكن «نقطة الضعف» اللبنانية هنا كبيرة. فالمجتمع الدولي سيبتزّ الطبقة السياسية: «نعطيكم المال الذي يمنع سقوط البلد، ونتغاضى عن إخلالكم بوعود الإصلاح، شرط أن تَقبلوا بتطبيع إقامة النازحين! هذه مقابل تلك». ولذلك يمكن القول إنّ فساد الطبقة السياسية هو الورقة التي يستخدمها المجتمع الدولي لتطبيع إقامة النازحين.

كل ذلك يعني أنّ العودة، كما يتمناها الجانب اللبناني، لن تتمّ حالياً. وثمة مَن يراهن على أنّ النازحين الهاربين من أوضاعهم الأمنية والمعيشية والنفسية السيئة هناك إلى «الجنّة اللبنانية» سيعودون تلقائياً، بل سيتهافتون على العودة مثلما تهافتوا على المجيء، عندما تنطلق وُرَشُ الإعمار وتولّد مئات الآلاف من فُرَص العمل في اختصاصات ومجالات لا حَصْرَ لها، فتُحَلُّ أزمة النازحين تلقائياً.

ولا يخفي نظام الأسد أنه عاجز حالياً عن استيعاب النازحين وإعادتهم إلى المناطق التي غادروها. وأما الأماكن التي يمكن أن يقيموا فيها، في فترة انتقالية، ضمن المناطق الآمنة، فهي موضع خلاف وتشكيك بينه وبين الولايات المتحدة وتركيا. ولذلك، عملياً، يعني موقف الأسد أنّ العودة مؤجّلة إلى حين إنجاز الحلّ السياسي.

هنا يصبح منطقياً السؤال: هل هناك فائدة حقيقية للخط المباشر والساخن الذي افتتحه وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب مع دمشق؟ أي، هل هو قادر على تحقيق أكثر من الخطوات الصغيرة، ولكن المتتالية، التي يحقُّقها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، والتي تشمل مئات النازحين في كل مرّة؟

واقعياً، لا يمكن توقُّع خروق حقيقية في المدى المنظور. فالجميع ينتظر شيئاً ما قبل ذلك. وهذا الأمر ربما يعرفه رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه المتحمِّس لتحقيق العودة. ولكن، على الأقل، هو يأمل في التأسيس لورشة العودة.

ولكن، إذا طال الانتظار، وتراكمت التعقيدات السياسية والمعطيات الميدانية في سوريا، فلن يبقى من الحوار اللبناني - السوري حول النازحين إلاّ العنوان. وفي الأثناء، سيكون لبنان أسير الخُبث السياسي، دولياً وسورياً على حدّ سواء.

في هذه الحال، ستنفتح خطوط أخرى على طريق الشام، بعناوين كثيرة. وسيكون التحدّي عدم نشوء تناغم بين الخُبث الخارجي والخُبث الداخلي، ما يُوقع لبنان في تجارب ما قبل 2005. وهنا الكارثة.