ما إن ظهرت السفيرة الأميركية في لبنان إليزابيت ريتشارد، مع طاقم السفارة في السراي الحكومي، وتلاوتها بياناً مكتوباً أكدت فيه قلقَ واشنطن من «حزب الله»، حتى انهمك الداخل اللبناني كله في محاولة قراءة ما بين سطور هذا الحضور المفاجئ في قلب المشهد.
 

ما حرّك هذه القراءة، أو القراءات، في صالونات السياسة اللبنانية على اختلافها، هو أنّ السفارة كلّها تقريباً جاءت الى السراي، ولم تكن حكومة الرئيس سعد الحريري قد أقلعت رسمياً بعد.

وتقاطعت، أي القراءات، عند افتراض أنّ واشنطن، أرادت أن تنقل عبر السفارة الى الجانب اللبناني رسالة علنية بمضمون هجومي على «حزب الله». فيما أدرجت بعض القراءات السطحية الحضورَ الاميركي المتجدّد في سياق محاولة لشدّ عصب حلفاء واشنطن، بعدما لمست شيئاً من التراخي، قد أصاب موقعهم وموقفهم.

هذه السطحية، وعلى ما تقول شخصية خبيرة في السياسة الاميركية، تنمّ عن سوء رؤية، تعاني منه مستويات لبنانية سياسية وغير سياسية، فالحضور الاميركي «الحاشد» الى السراي، ليس محطة روتينية عابرة، بل هو خطوة شديدة الأهمية، حدّدتها الديبلوماسية الاميركية، ولها اسبابها، وهدفها أيضاً.

العنوان الاساس للحضور، في رأي تلك الشخصية، هو انزعاج واشنطن من رياح لبنانية تهبّ في اتّجاهٍ لا ترغب به. وهو ما عكسته «النبرة الجادة» للسفيرة الاميركية مع محدّثيها اللبنانيين.

وتقول: قد يحتمل أن يفسر هذا الحضور كمناسبة تذكيرية بأنّ واشنطن ماضية في تعقّب «حزب الله»، مع تشديد الضغط عليه بعقوبات قاسية تطوّقه وتخنقه مالياً بما يمنع عليه أيّ محاولة للتمدّد والإمساك بلبنان، وهو ما صرّح به الموفدون الأميركيون الذين زاروا لبنان قبل تشكيل الحكومة، وأبلغوا جهات لبنانية سياسية ومصرفية بأنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب قرّرت وضع لبنان تحت مجهرها خلال العام 2019.

تلاحظ الشخصية «أنّ واشنطن لم تعبّر علناً عن انزعاجها، بل غلّفته بالمضمون الذي كشفه الموفدون الأميركيون لناحية القلق من «الحزب»، وأنها ستستمرّ بلغة الضغط ربطاً بحكومة تعتبر أنّ لـ»الحزب» حضوراً ثقيلاً فيها، وأنّها لن تتهاون في هذا المجال.

في الأساس، والكلام للشخصية الخبيرة في السياسة الاميركية، إنّ لواشنطن ما يمكن أن يُسمَّى «بنك تحفّظات» على حكومةٍ يتصدّرها وجودُ «حزب الله» فيها بثلاثة وزراء، وعلى رأس وزارة الصحة التي لم تخفِ رغبتها في منع وصوله اليها. وما حصل في الايام الاخيرة أنّ هذا «البنك» أُضيف اليه رصيدٌ أزعج الاميركيين وأقلقهم، وجاء من ثلاثة مصادر:

- الأول، زيارة وزير النازحين صالح الغريب الى سوريا، التي تُحاط بالتباسات وتساؤلات اميركية ليس لناحية قيام هذا الوزير بالزيارة، (المتوقعة في أيّ وقت، خصوصاً وأنّ للغريب علاقات وثيقة بالسوريّين)، بل لناحية إصرار الوزير نفسه على القول إنّ زيارته تمّت بالتنسيق مع الجهات اللبنانية الرسمية. في موازاة إصرار مسؤولين في الحكومة على نزع الطابع الرسمي عن الزيارة واعتبارها خاصة لا تُلزم الحكومة.

- الثاني، المواقف الصادرة عن وزير الدفاع الياس بو صعب في ميونيخ حول «المنطقة الآمنة» على الحدود السورية التركية، والتي اعتُبرت متناغمةً مع موقف النظام السوري، وثمّة مَن اعتبرها في لبنان تجاوزاً للحكومة اللبنانية قبل أن تبدأ عملها الرسمي وخرقاً لمبدأ «النأي بالنفس».

- الثالث، زيارة وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف الى بيروت، والتي تزامنت مع تشكيل الحكومة، على نحوٍ بدا وكأنّ لإيران الدور الأساس في تأليفها بعد ثمانية اشهر من التعطيل، اضافة الى إعلان ظريف إستعدادَ إيران مساعدة لبنان من دون شروط. واضافة ايضاً الى «الانسجام» الذي بدا واضحاً بين ظريف والمسؤولين اللبنانين الذين التقى بهم. وبالتأكيد انّ هذا أمر مزعج للاميركيين وغير الاميركيين.

هذه الاشارات، تقول الشخصية المذكورة، يبدو أنّ واشنطن اعتبرتها «خطيرة»، يُخشى أن تكون مندرجةً في سياق خطوات أكبر قد يفكّر «حزب الله» وحلفاؤه في الذهاب اليها، أو تطويرها على نحو يؤدّي الى فرض وقائع لبنانية جديدة، ولذلك عجّلت في اقتحام المشهد اللبناني لرفع «البطاقة الصفراء» في وجه الحكومة، ومن خلالها الى سائر مكوّنات، محذِّرةً من تجاوز الخطوط الحمر، التي يندرج في سياقها الانفتاح على سوريا، علماً أنّ واشنطن سبق لها أن فرملت الاندفاعة العربية نحو سوريا، والتي كانت تجري بوتيرة سريعة في الاشهر القليلة الماضية، وتمّ وضعُها على الرفّ حالياً في انتظار العودة الى تحريكها الى الأمام، أو إرجاعها الى الوراء بحسب التوقيت الاميركي.

تخلص الشخصية الخبيرة في السياسة الاميركية الى القول، إنّ واشنطن أرادت من حضورها الأخير عبر إنزال سفارتها بكل ثقلها على سطح المشهد اللبناني، مراسَلة اللبنانيين بمستوياتهم الرئاسية والسياسية، لتقول: ما زلنا موجودين في لبنان، ومستمرّين في حضورنا، ولا يتصرّف أحد فيه على أننا غيرُ موجودين، لقد تمّ رفع «البطاقة الصفراء» بيد حالياً، وأما «البطاقة الحمراء» فهي في اليد الأخرى!